منذ تحوّلها إلى سياسة الاستهداف المتواصل عبر الطائرات المسيّرة والقذائف، من دون اشتباك مباشر، ركّزت تركيا على البنى التحتية في مناطق سيطرة «قوات سوريا الديموقراطية» (قسد) بما فيها من محطات ومخازن نفطية ومنشآت صحية وغيرها. ويأتي ذلك ضمن خطة تهدف إلى إضعاف «الإدارة الذاتية» الكردية، في ظل «الفيتو» الأميركي - الروسي على شن تركيا عملية عسكرية بريّة ضدّ الأخيرة، والموافقة الضمنية من قِبل واشنطن - التي تسيطر على معظم مناطق النشاط العسكري التركي - على هذا النوع من الهجمات، والذي وصل إلى حد استهداف القطاع الزراعي، في ما تراه مصادر ميدانية، تحدثت إلى «الأخبار»، «مقصوداً ومتعمّداً». واستهدفت القوات التركية، في الأسبوعين الأخيرين فقط، عن طريق القصف المدفعي والصاروخي، مواقع زراعية عديدة في محيط عين العرب ومنبج في ريف حلب الشرقي، ومناطق أخرى في ريف الرقة، الأمر الذي تسبّب باشتعال حرائق كبيرة آخرها حريق أتى على مساحات واسعة من المحاصيل الزراعية في قرى عديدة في محيط منبج، بينها قريتا الدندنية وأم عدسة، فضلاً عن حريق أتى على نحو 500 دنم في عين عيسى في ريف الرقة.وبينما لا يُعرف على وجه الدقة حجم الضرر الذي تسبّبت به الهجمات الأخيرة، والتي تتوقع المصادر استمرارها في ظل السياسة التركية المتّبعة حالياً في إدارة الصراع مع الأكراد، فهي تأتي بالتزامن مع بدء موسم حصاد القمح، الذي يمثّل الركيزة الأساسية في الأمن الغذائي السوري، والذي تتجدّد فيه مزاحمة «قسد» للحكومة السورية على شراء المحاصيل من المزارعين عن طريق رفع ثمن القمح بنحو 1500 ليرة مقارنة بالأسعار التي حدّدتها الأخيرة، فضلاً عن منعها وصول الشحنات إلى مراكز الاستلام الحكومية. وتتوقّع «قسد» أن تتسلّم نحو 1.5 مليون طن من إجمالي نحو 3 ملايين طن منتظَر إنتاجها في سوريا، ضمن ثلاث مناطق، تسيطر الحكومة السورية على أولها، وتتقاسم الفصائل الموالية لتركيا (بما فيها «هيئة تحرير الشام» - جبهة النصرة سابقاً) و«قسد» السيطرة على ثانيتها وثالثتها، علماً أن الأخيرة تُحكم، تحت إشراف الولايات المتحدة، قبضتها على أكثر المناطق إنتاجاً للقمح (الشرق السوري) وغنىً بالنفط.
ورغم الظروف التراكمية السيئة التي تسبّبت بها الحرب المندلعة في سوريا منذ عام 2011، يبدو موسم القمح هذا العام وفيراً، إذ يمكن أن تغطي الكميات المنتجة حاجة البلاد، علماً أن سوريا كانت تنتج نحو 4 ملايين طن قبل الحرب. غير أن مزاحمة «قسد» والفصائل الموالية لتركيا، للحكومة السورية، حدّت من قدرة الأخيرة على تسلّم الأقماح، ما سيضطرها إلى الاستمرار في استيراده لتغطية النقص الحاصل، على غرار ما فعلت في السنوات الماضية، التي شهدت عمليات تهريب نشطة للقمح من الشمال السوري نحو تركيا، ومن مناطق «قسد» نحو إقليم «كردستان العراق»، في حين قامت دمشق باستيراده. وفي شهر آذار الماضي، تسلّمت الحكومة آخر دفعة من القمح، وصلت عبر سبع بواخر إلى مرفأي طرطوس واللاذقية، ضمن صفقة وُقّعت مع روسيا نهاية العام الفائت، لاستيراد 1.4 مليون طن من القمح القاسي المناسب لصناعة الخبز، علماً أن دمشق كانت تقوم، قبل اندلاع الحرب، بمبادلته بالقمح الطري الذي يتم إنتاجه في البلاد، وتحصيل مبالغ مالية جيدة بسبب فروقات الأسعار بين النوعين.
وفي وقت حدّدت فيه الحكومة السورية 44 مركزاً لتسلّم الأقماح، ذكرت مصادر كردية، تحدثت إلى «الأخبار»، أن «قسد» ستقوم بتسلّم معظم الأقماح في 30 مركزاً في العراء، بسبب امتلاء معظم الصوامع الإسمنتية في مناطق سيطرتها، وخروج قسم آخر منها عن الخدمة بسبب القصف التركي. ويُضاف إلى ذلك، عدم تمكّن «قسد» من تهريب كميات من القمح نحو «كردستان العراق»، في العام الماضي، نتيجة سلسلة من الأزمات المتعلّقة بالصراع بين حزب «الاتحاد الديموقراطي» الذي يتحكم بـ«قسد» من جهة، وأحزاب أخرى تابعة لـ«المجلس الوطني» المقرّب من كردستان وتركيا من جهة أخرى، فضلاً عن قطع تركيا طرق نقل القمح، عبر القصف المستمر. ويثير إصرار «قسد» على مزاحمة الحكومة السورية في شراء القمح، عدّة تساؤلات لدى المراقبين، في ظل أزمة التصريف التي تعانيها الأولى. كما يثير قيامها برفع أسعار الخبز 50 في المئة، وسعر الطحين 100%، تساؤلات أخرى، علماً أن هذا الإجراء دفع الأفران إلى بدء إضراب احتجاجي في مناطق عديدة واقعة تحت سيطرتها.