أثار كاتب صديق قبل مدة لغطاً حول فن الرواية باتهامها بأنّها فن رديء، متكئاً في اتهامه على عشرات النصوص المنشورة على مدى العقد الأخير تتضمّن حشواً، وأدان الرواية تحديداً لأنّها فنّ «هجين» يعتاش على فنون مختلفة وتُمرَّر الرداءة فيها بسهولة.هذا ما زعمه الكاتب الصديق شريف صالح، مؤكّداً أنّ الفنون القولية وفقاً لوصفه «أقل جمالياً» من الفنون التي تتسم بدرجة كبيرة من التجريد وانضباط الإيقاع على رأسها الموسيقى. «فالموسيقى فن لا يفرض عليك وجهة نظر معينة، ولا تقرأها كي تستنتج فكرة محددة، بل تتعايش معك وتحيط بك كمتلقٍ في مختلف حالاتك، ولكل شخص أن يربطها كما يشاء بذكرياته وتجاربه الذاتية. فن مفتوح بحرية على كل التأويلات بينما الفنون القولية لا تملك هذا الانضباط في الإيقاع ولا التجريد ومقيدة في تأويلها». ولن أهتم بالرد على الجزء الخاص بالموسيقى هنا لأنه خارج اختصاصي وخارج اهتمام هذا المقال، ولكنني سأهتم بالجزء الخاص بالفنون القولية أو السرد.

رأى نيتشه أنّ الأدب يساعد في فهم المعاناة البشرية

هو يقول إنّ المسألة الأخرى والأكثر أهمية أننا لو حصرنا كلامنا بالفنون القولية، «سأضع الشعر في الصدارة ثم الدراما ثم القصة القصيرة. هذا ترتيبي الجمالي الخاص بي، لأنّ تلك الفنون تملك قدراً كبيراً من الإيقاع والانضباط ولا تقبل الحشو والترهل. بديهياً في كل فن، أعمال عظيمة وأخرى متواضعة. ومثلما هناك سيمفونيات وكونشرتات عظيمة، ثمة أغنيات شعبية خفيفة وبسيطة. لكني قصدت من التصنيف وإدانة الرواية تحديداً لأنها فن «هجين» يعتاش على فنون مختلفة ويتم تمرير الرداءة فيها بسهولة. فالقصيدة السيئة تنكشف ويصعب أن تعيش، بينما هناك ممارسات تضليلية كثيرة تُعطي مكانة وهمية لروايات كثيرة «مغشوشة» أو متوسطة القيمة في أحسن الأحوال.
وكنت أبديت رأياً في هذا يقوم على فكرة أن افتقار النص السردي لشرط من شروطه تخرج به من تصنيف النوع من الأساس، لأن غفلة أي كاتب عن شروط النوع الذي يتعامل معه في حد ذاته، تخرج بالنص من تصنيفه «الروائي».
لكني كلما أعدت التفكير في هذا الاتهام الجائر، تبيّنت أنّ الرواية اليوم لا تعيش حالة من التبدد بسبب ضحالة الكثير ممن يمارسون الكتابة فقط، بل بسبب الكثير ممن ينظرون إليها أو يكتبون عنها أيضاً، وهو ما جعلني أستعيد مقولات بعض الفلاسفة والمنظّرين الكلاسيكيين من بينهم نيتشه عن دور الأدب في فهم المعاناة البشرية.
يقول نيتشه في «ولادة التراجيديا» إن الحياة معاناة، وإذا تخلينا عن التفاؤل الضحل والخيال الجميل للثقافة والفلسفة والدين السائد، فستكون لدينا الشجاعة للنظر إلى الأسفل، إلى الأعماق، إلى الهاوية، إلى الركيزة الرهيبة للوجود، وسنرى الحياة على أنها معاناة، صيرورة، مثل «التدفق المستمر». فالحياة كصراع وجودي أزلي وفقاً لنيتشه، تؤدي إلى تدمير وإعادة ولادة رهيبين. تتيح لنا أن نرى «الجانب القاسي، الشرير، الإشكالي للوجود»، أو لما يصفه بـ«الدمار الرهيب لما يسمّى تاريخ العالم بالإضافة إلى قسوة الطبيعة».
والحقيقة أنّ مقولة نيتشه هذه كشفت لي جانباً مهماً في فهم النوع السردي الأدبي المعاصر في كونه يعبّر عن عالم شديد التركيب والتعقيد. عالم نشهد فيه اليوم عملية إبادة جماعية تمارس بدم بارد أمام أعين العالم، وبمباركة أميركية وغربية صاعقة لأنها تكاد أن تكشف لنا أنّ البشرية فعلاً ليست إلا مجموعة من الوحوش المستترة بالأردية المعاصرة والكلام المنمق.
وفي مثل هذا العالم، لا يمكن للأدب، كما نرى اليوم كثيراً مع الأسف، أن يأتي كأنه استجابة لزمن كان يعكس التفاؤل السطحي للعالم الفيكتوري، الذي كان يرى أنّ الحياة مفهومة ويمكن التحكم فيها وأن التاريخ منحنى تصاعدي نحو التقدم والتنوير. لا أعتقد أن عالم اليوم، لمن يود أن يقدم له فهماً صائباً أو حتى أن يحاول ذلك، يسمح بهذا التناول الرومانسي والحداثي للأدب لأنه سيغدو أدباً زائفاً بشكل ما.
لكن لماذا لا تُقبل الغالبية من الجمهور على الأعمال المركبة التي تحاول أن توجد صيغاً جديدة من السرد تتلاءم مع تعقيد عالم اليوم؟
عالم نشهد فيه اليوم عملية إبادة جماعية تُمارس بدم بارد أمام أعين العالم


لعل الإجابة عن سؤال مماثل، تعيدنا إلى طروحات النقد الأدبي الكلاسيكية التي تعرّضت لفكرة الذوق العام للجمهور، من بينها ما طرحه ديفيد هيوم، المؤرخ والفيلسوف البريطاني الذي قال عنه كانط يوماً «لقد أيقظني هيوم من السبات الدوغمائي». آمن هيوم بوجود معيار للأدب العظيم وبوجود مرجعية أدبية. وقال إنّه رغم التنوع الكبير في الأذواق، فإن الحقيقة هي أن المؤلفين مثل هوميروس اعتُبروا عظماء على نطاق واسع من قبل شعوب مختلفة على مرّ العصور. وهذا دليل تجريبي على شكل من أشكال العالمية في مسألة الذوق. ويمكن إضافة مثال آخر هو شكسبير لأنه مثال يخصّنا نحن أيضاً في العصر الحديث.
لكن الأهم من ذلك أن هيوم رأى أنّ الذوق يمكن تنميته، عبر الممارسة والتعامل بجدية مع الأدب، إذ أكد في مقالة له عن الذوق الأدبي أنّ التعامل الطويل والجاد مع الأدب، الذي ينطوي على ممارسة شاقة، ومقارنات لا تعرف الكلل، والتخلص من الأحكام المسبقة المتحيزة، يمكن أن يرفع القارئ الفردي إلى ذوق أكثر صدقاً وعالميةً.
هذا سؤال ينبغي أن يثار اليوم أكثر من أي وقت مضى بسبب الصراع الكبير بين الذوق الذي يتكوّن في عصر التفاهة الراهن، أو وفقاً لزمن التفاهة ونظامها كما وصفه الكندي آلان دونو، عبر منصات السوشيال ميديا، وعمليات الابتذال الأدبي والنقدي التي تفيض بها، وبين الذوق الذي يبدأ بسيطاً وربما ساذجاً بعض الشيء، ثم يتلقى لوناً من التربية الضرورية التي ينبغي دائماً أن تتوافر بالعودة إلى الكلاسيكيات العظيمة التي تعد الدليل الراسخ على أن الذوق الرفيع يترسّخ عبر الزمن، والتي تكبح جماح التفاهة أو حتى الإقبال الجماهيري الشعبوي على البسيط والعادي والمكرر والمألوف لمصلحة الوعي العميق بالمعنى الأصيل للأدب ولفن الرواية خصوصاً.

* كاتب مصري