يشتغل أسامة بعلبكي على مناخات الضوء وانعكاساته اللونيّة والانطباعية في أفق اللوحة وسمائها، كأنّه يحاكي أنواراً داخلية غير مرئيّة. من هنا عنوان معرضه الجديد «ضوء داخلي» الذي تحتضنه «غاليري صالح بركات» حتى 20 تموز (يوليو) المقبل، ويشتمل على لوحات منفّذة بالأكريليك على كانفاس، بأحجام متفاوتة، حيث ثلاث منها فقط تحمل عناوين، فيما الباقي من دون عنوان.
«من دون عنوان» (أكريليك على كانفاس ـــ 60 × 90 سنتم ــ 2021)

يتأرجح أسلوب بعلبكي بين التعبيرية والانطباعية، فالخارج أو المنظر الطبيعي يتحوّل على طريقة فان غوغ منظراً خاضعاً لشعور الفنان الداخلي ومزاجه ورؤيته الخاصة. مكوّنات المشهد والمكان تنادي الفنان ذا الاتجاه التعبيري إلى إعادة خلقها تبعاً لإحساسه بها. هكذا مثلاً حوّل فان غوغ سهل القمح الجميل إلى فضاء تغزوه الغربان السود. خضع المشهد الطبيعي بذلك لمزاج الفنان فأعاد خلقه، أو تصوّره بفرادة نظرته وإحساسه الذاتيين. وفي هذا المذهب التعبيريّ ذهاب أبعد من المذهب الانطباعي الذي يتّسم بالذاتية إنّما بغنائيّة شفّافة خالية من القلق والانقباض والنظرة المتشائمة السوداء. فان غوغ مثال هذه النظرة الأخيرة. الانطباعيون أمثال رينوار ومونيه وبيسارو، لم يضمّنوا لوحاتهم قتامةً وقلقاً واضطراباً وجودياً. لذلك إنّ بعلبكي هو في منزلة بين المنزلتين: بين الانطباع والتعبير، لدى النظر إلى مدينته بيروت التي تحيا أزماتها ومآسيها المتتالية حروباً وانفجارات، أو إلى المنظر الطبيعي الذي لا يحجب جماله قبح تشوّهه وانتهاكاته. تميل الألوان الحارّة بطبقاتها الكثيفة إلى المناخات القاتمة غير المفرحة، فلا المنظر الطبيعي ولا المدينة يمدّان بعلبكي بشعور البهجة أو «الروعة» أو الافتتان، بل بالانقباض الروحيّ والقتامة والوحشة. النور يتشظّى ويخفت ويتحطّم، وتميل الألوان ـــ رغم حدّتها ـــ إلى الحمرة النارية أو الزرقة الحزينة. هي قسوة المشهد الذي تتوارى فيه الأحلام والأنوار خلف أفق متجهّم ومناخات مكفهرّة. إنّه انعكاس لخفوت النور الداخليّ لدى الفنان، ناظراً إلى واقع مدينته المأساويّ والمهشّم يسعى خلف روح المكان لا خلف جمالياته. تحضر في لوحته بيروت، المرفأ، المأساة، فوضى العمارة تحت السماء الملبّدة بسماكة اللون وطبقاته الرمادية الكئيبة.

«متماسك» (أكريليك على كانفاس ـــ 100 × 120 سنتم ــ 2023)

لوحة أسامة بعلبكي لا تحتفي بشيء. أيّ ملمح جماليّ أو انطباعيّ شاعريّ (بحر، أفق مغيب، شجرة…) سرعان ما يهيمن عليه ذاك الشعور الداخلي غير الفرح، أي غير المحتفي بجمال المنظر، بل بطغيان المناخ الداكن الذي يولّد انقباضاً في النفس. الفراغ شعور مهيمن أيضاً وغياب الحركة وتوقف الزمن. ثمة ملمح من الرومنطيقية الحزينة التي تبحث عن الجمال الصافي النقيّ فتلقاه محتجباً خلف تلبّد السحاب أو طغيان الجوّ الرماديّ. وهذا كلّه انعكاس لداخل لا يسعه التخفّف من شعور الكآبة والحزن. وشعور بعلبكي المقترن حكماً بأسلوبه، لا يعرف منذ معارضه الأولى انقطاعات في الرؤية أو المزاج، بل يحافظ على سويّة واحدة من التعبير.
يتأرجح أسلوبه بين التعبيرية والانطباعية

بيروت كائن ذو جسد وروح في لوحته، خصوصاً المنطقة المطلّة منها على البحر (عين المريسة ورأس بيروت) وأفقها المفتوح على غموض موقعها المتوسطيّ الذي يصفه الفنان نفسه على نحو معبّر بـ «الشحوب الروائي الجذّاب». لا غرابة بالتالي أن يكون أسامة بعلبكي «الشاحب تشكيليّاً» متأثراً بالشحوب الشعريّ لدى ماياكوفسكي وبودلير والسيّاب، مثلما هو شديد التأثّر رسماً ولوحةً بفان غوغ، مقتفياً أثر مناظره الطبيعية، وعناصر كآبته، وسماكة ملوانته، وقتامة مناخاته اللونية رغم زهو الألوان وحرارتها. ولا يخفي بعلبكي أن الشعراء يلهمونه أكثر من الرسامين الذين يقتصر تأثيرهم على الأسلوب فحسب. الشعراء أكثر حلماً في رأيه، وأرحب تعبيراً عن الخفي والغامض وغير المقروء في العالم، فضلاً عن الأبعاد التراجيدية في شعرهم. وإلى فان غوغ، يكشف بعلبكي عن تأثره بسيزان وجياكوميتي، وبوالده عبد الحميد بعلبكي وبالمصري عبد الهادي جزّار والسوري لؤي كيالي وآخرين. لوحة أسامة بعلبكي تنطوي ـــ كما لدى هؤلاء ــــ على صرخة مكتومة، أو على احتجاج صارخ في وجه الواقع الكئيب والمشوّه.
بين المشهد الواسع وعزلة الفرد الحميمة، تتنوّع لوحات أسامة بعلبكي وتتعدّد في معرضه الجديد الذي يخوض فيه حواراً داخليّاً، ساعياً إلى ذلك الضوء الداخلي، على ما يفصح في العنوان العام للمعرض. وحين يقبض على هذا الضوء، يلقاه كئيباً، شاحباً، مائلاً إلى غروب الوجود. كأنّ الرسام يعيش في ظلال كآبته الأليفة.

* «ضوء داخلي»: حتى 20 تموز (يوليو) ــ «غاليري صالح بركات» (كليمنصو ـ بيروت) ـ للاستعلام:01/365615