صدق مَن قال إنّ الليبراليّين لن يقفوا إلى جانبك إلّا في حال ارتضيت أن تبقى مظلوماً، خدمةً للصورة التي يريدون تسويقها عنك. حالما تقرّر أخذ الأمور على عاتقك والكفاح بنفسك، سوف تجدهم متكتّلين ضدّك، ينعتونك بأشدّ تهم «الإرهاب» والتطرّف، غير آبهين لنفاقهم المفضوح كونهم اعتنقوا التطرّف أنفسهم، وغير مكترثين لصورتهم ما دام لا قضيّة يتبنّونها تسمو فوق المصالح. هذا الكفاح قد لا يكون أكثر من مجرّد فضح موبقات كيان احتلالي وارتكاباته. فكما قال الأسير السياسي في سجون غرب النفاق، جوليان أسانج: «إحدى أهمّ طرق تحقيق العدالة هي فضح الظلم». أيديولوجية أسانج هذه هي ما أدّى إلى اعتقاله وعزله بطريقة غير شرعية لمجرّد قيامه بعمله الصحافي الحرّ، بعيداً عمّا تشتهيه الإمبراطورية الأميركية وأدواتها ومغفّلوها المفيدون.تصادم هذه الأيديولوجية مع نفاق الغرب بليبراليّيه ومحافظيه يشهده العالم كلّه منذ ثمانية أشهر ونيف من تضييق على صحافيّين فلسطينيّين لم يعودوا يقومون بواجبهم المهني فقط، بل يصارعون أيضاً من أجل البقاء قبل أن تصل آلة الإبادة الإسرائيلية إليهم، تماماً كما سبق أن وصلت إلى ما فاق المئة منهم! باتت معارضة الحروب توقعك تحت الضغوط ولو كانت المقصلة على رقبتك. فإمّا أن تخضع مستسلماً لمشيئة الليبرالية الجماعية ببقائك رهينة الظلم ولو استدعى الأمر «التضحية» بك، أو أنّ بقاءك على هذا الكوكب لن يكون سلساً، وستواجه مصاعب شتّى تبدأ بمحاولة تدمير حياتك المهنية. هذا الاستقواء والاستكبار من أسباب أفول الغرب الجماعي العتيد، ولكنّهما في الوقت عينه أحد أسس وجوده، وهو ما يتسبّب في النفاق الآنف ذكره. وعندها ليس عجيباً أن تشارك فيه منظّمة ليبرالية تدّعي مناصرة حقوق المرأة، ولا أن تستند تلك المنظّمة إلى وشايات من «الخصوم» المحافظين.
هكذا، بكلّ خبث ومكر، سحبت «منظّمة الإعلام الدولية للمرأة» (IWMF) جائزة «الشجاعة في الصحافة» لعام 2024 من الصحافية الفلسطينية، المراسلة في قطاع غزّة، مها الحسيني، يوم الأربعاء الماضي. وكانت المنظّمة قد أعلنت أخيراً عن فوز الحسيني بالجائزة التي «تكرّم الشجاعة الملحوظة سعياً وراء التغطية الصحافية». المفارقة أنّ القرار الوقح جاء بعد «وشاية» من موقع «واشنطن فري بيكون» الأميركي الذي أسّسه ثلاثة محافظين عام 2012، وله تاريخ في استهداف مؤيّدي القضية الفلسطينية، وسبق أن وصفته مجلّة «ذي أتلانتيك» بأنّه «منحطّ وغير أخلاقي». نشر الموقع مقالاً لكاتبته آلانا غودمان زعمت فيه أنّ الحسيني «مؤيّدة لحماس ومعادية للسامية»، مستشهدةً بنشر الصحافية الفلسطينية كاريكاتوراً على صفحاتها الافتراضية ينتقد حرب الإبادة، بالإضافة إلى منشورات تنقل تجربتها الخاصّة كامرأة فلسطينية محاصَرة تحت الاحتلال. واعتبرت المنظّمة أنّ هذه المنشورات «تتعارض مع قيَمها»، مدّعيةً أنّ جائزتها «تستند إلى النزاهة ومعارضة التعصّب».
لم يكن القرار مفاجئاً، ويمكن اعتبار تقرير الصحيفة الأميركية بمنزلة الحجّة التي ارتأتها منظّمة IWMF مخرجاً لنفاقها. بمجرّد إلقاء نظرة على المنظّمة التي تتّخذ من واشنطن مقرّاً لها، تذوب كلّ علامات الاستفهام: يضمّ مجلس إدارتها ومجلسها الاستشاري أسماء شخصيّات بارزة في الإعلام الأميركي، مثل الصحافية السابقة في شبكة «سي. أن. أن» سوزان مالفو، والكاتبة في صحيفة «واشنطن بوست» هانا علّام، والمذيعة التلفزيونية كريستيان أمانبور. وإذا كانت هذه الأسماء لا تعطي فكرة واضحة بالضرورة عن توجّهات المنظّمة، فإنّ لائحة الجهات المانحة كفيلة بانقشاع الضباب: «بنك أميركا»، و«مؤسّسات المجتمع المفتوح» المملوكة لجورج سوروس، ومؤسّسة Luminate التي أسّسها الملياردير الأميركي ذو الأصول الإيرانية الفرنسية بيار أميديار مع زوجته، وهو أحد مانحي الحزب الديموقراطي الأميركي. وتصف المنظّمة نفسها بأنّها «جريئة وشاملة تدعم الصحافيّين أينما كانوا»، مدّعيةً أنّ عملها «يعزّز تكافؤ الفرص وحرّية الصحافة في أنحاء العالم».
هذا الواقع كان وراء عدم حدّة ردّ فعل الحسيني، ولو أنّها أعربت عن استيائها منه، فقالت الصحافية «إنّ الفوز بجائزة الشجاعة يعني التعرّض للهجوم واختيار مواصلة عملك بغضّ النظر عنه، ورغم ذلك، يؤسفني القول إنّ المنظّمة ذاتها التي أدركت هذه الظروف المحفوفة بالمخاطر ومنحتني الجائزة، استسلمت للضغوط واختارت أن تتصرّف بما يتعارض مع الشجاعة». وأضافت في منشور لها على X إنّه «بدلاً من الاعتراف بالتهديدات التي يواجهها الصحافيّون الفلسطينيّون والمساهمة في حمايتهم، فإنّ قرار سحب جائزة من صحافية فلسطينية في غزّة يمكن أن يزيد من تعرّضهم للخطر واحتمال استهدافهم». وقالت الحسيني إنّ قرار المنظّمة عرّض حياتها للخطر، مشيرةً إلى أنّ «كلّ إعلان عن منح جائزة لصحافي فلسطيني تتبعه بشكل منهجي حملات تشويه واسعة النطاق وضغوط مكثّفة على المنظّمات المانحة للجائزة من مؤيّدي الاحتلال الإسرائيلي. وفي حين يتمسّك بعض المنظّمات بمبادئه، إلّا أنّ البعض الآخر يرضخ للأسف للضغوطات ويسحب الجوائز». وأكملت أنّه «إذا كان الفوز بجائزة يستلزم تحمّل جرائم الحرب ومشاهدتها مع التزام الصمت، فلا يشرّفني الحصول على أيّ جائزة. سأكون دائماً موضوعية في تقاريري، ولكن لا يمكنني أبداً أن أكون محايدة؛ سأشير دائماً إلى الجناة وأتضامن مع الضحايا. هذا ما تعنيه الصحافة حقّاً».
من جهته، أدان موقع «ميدل إيست آي» الذي تعمل فيه مها الحسيني القرار الذي «اتُّخذ من دون التشاور معها». وقال رئيس تحريره ديفيد هيرست: «لم تبدِ المنظّمة شجاعة كبيرة في سحب جائزة الشجاعة من مها الحسيني. ففي الخطوط الأمامية للحرب، لا يعدو هذا التصنيف كونه محاولة لتدمير مكانة مها كصحافية مستقلّة. هذا التصنيف يضعها على قائمة المستهدَفين من الجيش الإسرائيلي، كونها فلسطينية تعرّض منزلها للقصف وأُجبِرت على الفرار للنجاة بحياتها مرّات عدّة خلال الأشهر الثمانية الماضية». وأشار هيرست إلى استشهاد أكثر من 150 صحافيّاً، مقترحاً «أن يسألوا أنفسهم أين تقع مسؤوليتهم كصحافيّين». يُذكر أنّ الحسيني نشرت منذ بدء حرب الإبادة عشرات التقارير الصحافية على الموقع المذكور، بما في ذلك تقرير يكشف عن الإعدامات الميدانية التي ارتكبتها قوات الاحتلال بحقّ الفلسطينيّين، واستخدمته جنوب أفريقيا كدليل في قضيّتها المرفوعة ضدّ كيان الاحتلال في «محكمة العدل الدولية».