في حين كان المنتظر أن تهبّ الجماهير العربية في عواصم الوطن العربي ومدنه نصرةً لأهل غزّة في حربٍ بلغت الوحشيةُ الإسرائيلية فيها مستوياتٍ غير مسبوقة، هبّت جماهير عربية وغير عربية في مدن أوروبا والولايات المتّحدة للتعبير عن الغضب مِن سياسات الغرب الاستعماري الداعمة للإبادة الصهيونية في غزة. وقد تجاوز الأمرُ التضامنَ الرمزي إلى نوعٍ مِن الفعل المؤثّر والمزعج للنخب الاستعمارية الغربية. في الولايات المتحدة، الراعي الرئيسي للعدوان الإسرائيلي، احتلّ مئات الآلاف أكثر مِن مرّة شوارع العاصمة واشنطن، ولم تتوقّف المظاهرات في نيويورك وغيرها مِن المدن الأميركية، بالإضافة إلى وجود الطلبة العرب في قلب الحراك الطالبي في الجامعات الأميركية، الضاغط باتّجاه وقف الحرب وعزل إسرائيل أكاديمياً.يبدو حجمُ هذا الفعل مفاجئاً بالنظر إلى عوامل عدّة، منها اهتراء المنظّمات العربية الفاعلة في الولايات المتحدة في العقود الثلاثة الأخيرة، إذ يشكو كثيرٌ مِن المنظّمات العربية والإسلامية مِن ضعف القدرات المادية، في الوقت الذي تندفع فيه رؤوس الأموال العربية نحو شركات العلاقات العامّة الأميركية بُغيةَ تحسين صورة هذه الدولة أو تلك، وتعزيز علاقاتها بالساسة الأميركيين. بالإضافة إلى ذلك، كثيرٌ مِن الشابّات والشبّان الفاعلين في هذا الحراك مِن أجل غزّة ينتمون إلى جيلٍ ثالثٍ مِن المهاجرين العرب والمسلمين، وكان التصوّر السائد أنّ هؤلاء اندمجوا في الثقافة الأميركية، وفي أفضل الأحوال لا يكترثون لقضايا وطنهم العربي وهمومه.
يمكن تفسير ردّ الفعل هذا جزئياً بحفاظ المهاجرين العرب والمسلمين على هويّة خاصة، تشكّل قضيةُ فلسطين مدماكاً أساسياً فيها، ونقلها إلى الأجيال اللاحقة. لكن مِن المهم الالتفات إلى أنّ الأجيال التي ترعرعت في ظلّ انتصار النموذج الرأسمالي الاستهلاكي وقيَمه الليبرالية (حتى داخل الوطن العربي)، والذي يجد في الإعلام والتقنيّة وسائل فاعلةً لسلب العقول والقلوب، هي أكثر قابليةً للذوبان في ثقافةٍ استهلاكية لا تلقي بالاً لقضية مثل القضية الفلسطينية. غير أنّ الغرب الاستعماري، بعنصريّته المتفلّتة مِن تغطية مساحيق التجميل الليبرالية، لم يجد في هؤلاء جزءاً مِن «نحن» أميركية أو غربية، بل استمرّ في اعتبارهم «الآخر» الغريب المتخلّف النقيض لحضارة الغرب. ليست المسألة فشلاً في سياسات الإدماج، بل إصراراً على تعريف الذات الغربية بنقيضها ضمن تصوّرٍ عنصري متجذّر، ذكَّر هؤلاء المختلفين بأنهم أجانب وإن حصلوا على العضوية في الدولة عبر الجنسيّة.
ليست المسألة فشلاً في سياسات الإدماج، بل إصراراً على تعريف الذات الغربية بنقيضها ضمن تصوّرٍ عنصري متجذّر، ذكَّر هؤلاء المختلفين بأنهم أجانب وإن حصلوا على العضوية في الدولة


تنوّعت الخلفيات الإثنية والدينية المشارِكة في الحراك مِن أجل غزّة في دول الغرب، ولكن كان للعرب مساهمةٌ أساسية في هذا الحراك، وتحشيد الآخرين ودفعهم للالتحاق به، واستخدام وسائل التواصل الاجتماعي بشكلٍ فعّالٍ لنقل صورة الجرائم الصهيونية، ومواجهة السرديّة الإسرائيلية في الغرب. دلالة تأثير هذا الحراك هو التعامل الأميركي العنيف مع حراك الجامعات، وحجم الذعر الذي انتاب صهاينةَ إسرائيل والغرب مِن ارتفاع الأصوات المعادية للصهيونية داخل الجيل الشابّ في الولايات المتّحدة. يتحوّل الغرب الاستعماري للعنف والقمع داخل الدول الغربية، ويُضيّق مساحات حرية التعبير، حين تهتزّ هيمنته عبر القوة الناعمة، وقد ضُربت هيمنته على السرديّة في ما يخصّ القضية الفلسطينية. بالنسبة إلى الصهاينة، لم تعد إسرائيل قادرةً على احتكار صورة الضحية، بل حصل انقلابٌ في صورتها عند شريحةٍ لا بأس بها مِن الأميركيين والغربيين، وهذا أمرٌ يقلق النخب الإسرائيلية التي تظلّ تعوّل على احتضان الغرب، وقد اتّضح في هذه الحرب بالذات مدى اعتماد إسرائيل على الدعم الأميركي والغربي.
هذا الحراك يسهم أيضاً في تعميق التناقضات داخل المجتمع الأميركي، كما يجعل غزّة ملفّاً داخلياً في الانتخابات المقبلة. الكتلة العربية والإسلامية مع حلفائها المساندين لغزّة يشكّلون بأصواتهم أهميةً في الانتخابات الرئاسية القادمة، إذ إنّ الانقسام بين الجمهوريين والديموقراطيين، يجعل المستقلّين يحدّدون مسار الانتخابات، خاصّة في ما يسمّى الولايات المتأرجحة، والتي حسمت فيها انتخابات عام 2020 بفوارق ضئيلة. الثقل العربي والإسلامي في ولاياتٍ مثل ميشيغن وبنسلفانيا يمكن أن يَضرب فرصَ بايدن في ولايةٍ ثانية، وإذا خسر بايدن بفعل امتناع الكتلة العربية والإسلامية عن التصويت له بسبب حرب غزة، تكون هذه الكتلة قد أسّست لوزنٍ لها لا يمكن تجاوزه في المستقبل، خصوصاً من الحزب الديموقراطي.
عرب المهجر الغربي، الذين يشكّلون شعباً عربياً خارج الوطن العربي، ولا يجدون اهتماماً بقضاياهم وهمومهم مِن الإعلام العربي، يمكنهم أن يسهموا بدورٍ مؤثّر في المواجهة مع الصهيونية.
* كاتب عربي