هناك تناقض في القول إنّ القضية الفلسطينية لا تزال تمثّلُ صلبَ اهتمامات الرأي العام العربي وأنّ استطلاعات الرأي في مختلف الدول العربية لا تزال تؤكدُ مركزية القضية الفلسطينية في الضمير العربي، والقول، من ناحية أخرى، إنّ ردّ الفعل الشعبي العربي إزاء ما يحصل في غزة من حرب إبادة كان مخيّباً للآمال. لكن التناقض يختفي لو أخذنا في الحسبان جملةً من المتغيّرات السياسية التي لحقت بالسياسة العربية على مدى العقديْن الماضييْن خصوصاً بعد حرب العراق وإعادة تركيب النظام العربي الرسمي من قبل الحكومة الأميركية (بما يتلاءم مع مصلحة إسرائيل). صحيح أنّ التدليل على مركزية القضية الفلسطينية يستدعي ظهوراً شعبياً في الشوارع العربية، كما كان يجري في الماضي. كانت المظاهرات تعمُّ العواصم العربيّة، وحتى القرى والبلدات، عندما تتألّم فلسطين. لكن العالم العربي اليوم هو غير ما كان عليه والقمع اليوم هو غير ما كان عليه، كما أن صلابة السيطرة السعودية على مقدّرات الجامعة العربية يُضعفُ من إمكانات التعبير السياسي عن فلسطين في مختلف الدول العربية. لكن هذا لا يعني أبداً أنه ليس من ظاهرة تستحقّ التحليل وتتعلّق بالسلوك السياسي أو الشارعي للجمهور العربي في السنوات الماضية. وكيف يمكن لنا أن نلاحظ من ناحية غياب مظاهرات شعبية عارمة في الدول العربية من أجل فلسطين، وأن نلاحظ من ناحية أخرى نزول مئات الآلاف من اليمنيّين بصورة أسبوعية للتعاطف مع فلسطين، واليمن هي دولة محاصرة ومعذّبة وتتعرّض للقصف من حلف غربي خليجي؟ هناك علاقة مترابطة بين إيمان الناس بإمكانية التغيير وبين تكرار نزول الناس إلى الشوارع للتعبير عن غضب ما أو تعاطف ما. كانت الجماهير العربية في الخمسينيّات والستينيّات أكثر ميلاً للنزول إلى الشارع بأعداد كبيرة لأنها كانت تؤمن أن التغيير واردٌ بسبب تعاقب الانقلابات والقلاقل والحركات. وكان ذلك في زمن كانت تقوم فيه بعض القيادات، مثل جمال عبد الناصر، بتحريض الشارع مباشرة للتعبير عن آراء سياسية وعن ضرورات التغيير خصوصاً في ما يتعلّق بفلسطين وتحريرها. أين نحن الآن من ذلك بعد ابتعادنا عن زمن التغييرات والانقلابات. إذاً، هناك سلسلة من الاعتبارات يمكن أن تفسّر استكانة الشعب العربي، حتى لا نقول الشارع العربي، لأن تلك العبارة الاستشراقية التي تتكرّر في الإعلام الغربي لها نفحة عنصرية، إذ إنها تربط بين التعبير السياسي العربي وبين الشوارعيّة والغوغائية كأنّ الناس عندما يتظاهرون في الغرب يتظاهرون في مكان غير الشوارع (شرفات المنازل مثلاً؟).
أولاً، الشعب العربي فقدَ الأمل في تغيير ما من جراء المظاهرات. كانت المظاهرات في السودان مثلاً تؤدّي إلى انقلابات وكانت المظاهرات في سوريا وفي لبنان والأردن أو في العراق تهدّدُ استقرار الأنظمة وتتسبّب في تغيير حكومات. الأمل في التغيير بات ضئيلاً اليوم لأن الأنظمة وصلت إلى مرحلة من الاستقرار، ولا تختلف هنا بعض الأنظمة الجمهوريّة عن الملكيّة.
ثانياً، ليس هناك من مُرشد سياسي أو من قائد عربي يقوم بدور المحرِّض الثوري لمصلحة قضية فلسطين. كانت القيادات العربية، صادقةً أو مُخادعةً، تعبّئُ الرأي العام بالنسبة إلى فلسطين. اليوم بات سقف ما تطالب به كل الدول العربية، بما فيها الجزائر التي كانت تمثّل الدولة الأكثر استقلالية من مصالح الغرب بحكم تاريخها المشرّف، هو «حلّ الدولتين». وأعادت الجامعة العربية التذكير بهذا السقف في الوقت الذي يكرّر فيه كل قادة إسرائيل رفضهم المطلق لهذا الحل ولا يزال مشروع السلام العربي من عام 2002 يطيرُ في مهبّ الريح بانتظار أن تعيره إسرائيل اهتماماً.
ثالثاً، إن أشراف أميركا المباشر على تسليح الجيوش وإعداد أجهزة المخابرات والقمع حسّنَ من قدرات ضبط الشارع من قبل الأنظمة. إنّ أميركا لا تعدّ الجيش اللبناني من أجل أن يواجه إسرائيل، وإنما فقط من أجل أن يواجه متظاهرين لبنانيين أو لاجئين فلسطينيين أو - في مرحلة التمنّي الأقصى - المقاومين اللبنانيين. الجيوش العربية باتت معدّة ومهيّئة لحماية مصالح أميركا ومصالح الأنظمة المرتبطة بها. ها قد رأينا قبل أيام، في العراق، القوى الأمنية والعسكرية المدرّبة من قبل أميركا باتت تتحصّن بأسلحتها الفتّاكة أمام مطاعم دجاج كنتاكي كي تحميها من غضب الناس. هذا دور الجيوش العربية الذي تريده أميركا لنا: قمع المتظاهرين -وقتلهم لو اضطرت الأنظمة - وحماية مطاعم دجاج كنتاكي.
هل إن الشعب العربي يظنّ أن تغريدة على المواقع أو لفتة استحسان تغني عن النزول إلى الشارع؟ النزول إلى الشارع يغيّر سياسات (محليّة وخارجيّة) وحكومات أمّا اللايكات فتشعرنا بتأدية قسطنا للعلى وللقضيّة


رابعاً، كانت الأنظمة العربية تاريخياً تشارك في تحريض الشارع على التعاطف مع فلسطين والتعبير عن العداء ضد إسرائيل. الحالة السياسية تغيّرت كثيراً. الكثير من الأنظمة العربية باتت مرتبطة في استقرارها بسلامة الكيان الإسرائيلي، وبعض الأنظمة بات متحالفاً جهاراً مع إسرائيل، أي إن النزول إلى الشارع للتعاطف مع فلسطين وإظهار العداء ضد الصهيونية يتضمنُ عناصر عداء ضد الحكومات المتواطئة. أي إن الوقوف بوجه إسرائيل يُتَرجم على أنه وقوف بوجه الحكومات. تحدّي إسرائيل يعني تحدّي الحكومات.
خامساً، نجحت وسائل الترفيه والتضليل السياسي في التأثير على العقول العربية. لا ينفع الإنكار. الإعلام السعودي الإماراتي رعى انبثاق إعلام وثقافة يتضمّنان عنصريْن أساسيّيْن: 1) التضليل السياسي وضخ مضمون صهيوني، كما تفعل المحطات والصحف السعودية والإماراتية في هذه الحرب المجنونة. هذا التضليل بات يصورُ الواقع عكس ما هو عليه إلى درجة أن مضمون جريدة مثل «الشرق الأوسط» أو «سكاي نيوز» (العربيّة) يتفوّق في الصهيونية على صحف أميركا العريقة في الصهيونية، مثل «واشنطن بوست» و«نيويورك تايمز». «الشرق الأوسط» تنشر مقالة مسهبة عن أن المساعدات تهطل فوق غزة فيما الصواريخ والقنابل لم تتوقف عن الهبوط فوق رؤوس الآمنين والآمنات. في هذه الحرب نشط الإعلام السعودي الإماراتي في شيطنة كل محور المقاومة في الوقت نفسه الذي يعمد فيه إلى التخفيف من حدة الغضب العربي ضدّ جرائم إسرائيل. إنّ اتفاقات أبراهام (المعلنة والسريّة) أثبتت فعاليتها الكبرى. لم تنفِ الحكومة السعودية تصريح السناتور لينزي غراهام والذي قال فيه، بعد مقابلة مع محمد بن سلمان، إن الحكم السعودي يريد أيضاً القضاء على حركة «حماس». 2) الشقّ الآخر أو العنصر الآخر من الإعلام الصهيوني العربي هو ثقافة الترفيه والتي يمثلها خير تمثيل المستشار تركي الشيخ، الذي يسعى إلى كسب رضاه معظم الفنانين والإعلاميّين والمثقّفين العرب (حتى الشاعر أدونيس شارك في حفلات الترفيه في السعودية في حقبة حرب الإبادة؛ هذه ستكون بارزة في أي مرثيّة عن أدونيس، الذي شارك عبر مجلة «مواقف» في ثقافة «ما بعد الهزيمة» المقيتة والتي اعتنقت نسقاً محلياً من الاستشراق العنصري الغربي. كل إعلام الخليج يتنافس في تغطية الرياضة بكل أشكالها وأنواعها حتى الـ«غولف»، التي لم يألفها العرب، باتت ركناً من أركان السياسة الرياضية للمملكة. هل هذه نظرية مؤامرة؟ بالتأكيد، وكانت هذه من المطالب الأساسية للوبي الإسرائيلي عبر السنوات. كانت أقطاب اللوبي تلوم الحكومات العربية بأنها تفرط في تغطية القضية الفلسطينية وأن عليها أن تنشغل بمواضيع وأمور أخرى لا علاقة لها بالسياسة، وكان لها ما أرادت. هذه الثقافة السياسية الجديدة تبلورت بعد 11 أيلول، عندما تنافست أنظمة الخليج في طلب الغفران من أميركا. عندها فقط اكتشفوا خطر الإسلام السياسي وشنوا حرباً ضد الإخوان المسلمين التي حمّلها الأمير نايف بن عبد العزيز المسؤولية عن ويلات الأمة. وبعيداً عن مساوئ الإخوان المسلمين وشنائعهم، وهي كثيرة، فإن ظاهرة الإخوان هي في أساسها جانب من جوانب السياسة الرجعية العربية ضد عبد الناصر والتقدمية العربية العلمانية. الكويت أزالت اسم حسن البنا من شارع قبل أيام وهذا يختلف عن تلك الأيام التي كانت فيها هذه الأنظمة تحتفل بنجوم الإخوان وتستقطبهم من مصر كي يسهموا في وضع مناهج دراسية وتربوية ودينية. هذا لا يعني أن الشعب العربي نسي فلسطين، ولكنّ جيلاً جديداً من العرب في كل الأقطار تأثر بهذه الثقافة وبات يعرف من أسماء الرياضيين أكثر مما يعرف عن شهداء فلسطين عبر التاريخ.
سادساً، نجحت أجندة أنظمة الخليج منذ حرب العراق، وخصوصاً بعد انتصار حرب تموز، في تحوير أنظار الناس نحو قضايا الخلافات المذهبية والطائفية والتركيز على أخطار حقيقية أو وهمية في الداخل. ثقافة تقسيم العرب إلى شعوب وملل ونحل متناحرة كانت سياسة مقصودة. ثقافة الاستشراق الجديد الذي مثله برنارد لويس وفؤاد عجمي (الأكثر ابتذالاً وأقلّ معرفة من لويس) عمدت إلى التشديد على أن مشكلات العرب ومعاناة شعوبهم هي بسببهم هم وليس بسبب الاستعمار أو الصهيونية. الحكومات الخليجية اعتنقت هذا المذهب وعمّمته وبات كثر يرددون مقولات الجيش الإلكتروني السعودي. هذا الجيش يؤثر بقوة في كل مواقع التواصل العربية وفي كل البلدان ويحدد الأولويات والقضايا (وهم يشنّون حروباً شخصية وسياسية ضد حسابات تشكل خطراً على الأجندة الصهيونية العربية).
سابعاً، اندثرت الأحزاب السياسية الفاعلة في الكثير من البلدان العربية وهي باتت محظورة. في مرحلة الخمسينيّات والستينيّات، كانت الأحزاب الكبرى في كل الدول العربية تقود العمل الفاعل من أجل فلسطين. وكان حزب البعث قبل دخوله إلى السلطة في طليعة المنادين بتحرير فلسطين. لكن حزب البعث استولى على السلطة في دولتيْن وبات الحفاظ عليها أهم من التحرير ومن الوحدة. كما أن الكثير من الدول العربية إما تحظر الأحزاب السياسية أو هي تشكّل أحزاباً خاصّة بها تروّج لأجندتها. طبعاً، دول الخليج أعفت نفسها من هذه المشاغل وحظرت الأحزاب من أساسها. ثم ما الحاجة إلى الأحزاب السياسية بوجود الأمراء والشيوخ في تلك البلدان؟ كل أمير بحاله يغني عن الحزب. ليس من يُرشد الناس في عمل التعبير في النشاط المناصر لفلسطين. الحركات المناصرة لفلسطين في الجامعات الأميركية لم تكن عفوية بالكامل بل كانت منطلقة من تنظيمات طالبيّة وتقدميّة على نطاق البلاد برمتها.
ثامناً، تغيّر دور المخيمات الفلسطينية في البلدان العربية. كانت المخيمات الفلسطينية في لبنان مثلاً مركز القيادة للنشاط المناصر لفلسطين وكان التحضير للمظاهرات وحتى للعمل الثوري السلمي والمسلح ينطلق من المخيمات. المخيمات الفلسطينية في لبنان اليوم منقسمة بين محمود عباس ودحلان وكلاهما يعقد ولاءً إما للسعودية أو للإمارات. والفصائل الفلسطينية الجديدة المتجددة في المخيمات، والتي تتلقى التمويل من كل دول الخليج، منشغلة بتفسيرات سلفية للنصوص الدينية وهي معدّة لحملات التكفير أكثر مما هي معدة للكفاح المسلح ضد إسرائيل. والمظاهرات في رام الله كانت بالعشرات وكانت في حيفا بالعشرات (صحيح أن الشعب الفلسطيني في داخل الكيان يواجه صعوبات جمّة والسجن، مثل دول الخليج، عقوبة لتغريدة أو الاستحسان على مواقع التواصل).
هل إن الشعب العربي يظنّ أن تغريدة على المواقع أو لفتة استحسان تغني عن النزول إلى الشارع؟ النزول إلى الشارع يغيّر سياسات (محليّة وخارجيّة) وحكومات، أمّا اللايكات، فتشعرنا بتأدية قسطنا للعلى وللقضيّة.
* كاتب عربي - حسابه على «اكس»
asadabukhalil@