‏أمام مشهد الاحتجاجات الطالبية في جامعاتٍ أميركية وأوروبية، يغدو الناظر مدفوعاً إلى القول في استكانة الطلّاب في الجامعات العربية وعزوفهم عن الاحتجاجات ضدّ المجازر والإبادة الجماعية التي يرتكبها الكيان الصهيوني في غزّة طيلة أشهر، ولا سيّما أنهم مِن المفترض أن يكونوا معنيين أكثر بإدانة تلك المجازر والإبادة، مِن أترابهم في الجامعات الغربية. ولعلّ هذا ما يجعل القول يذهب، ولو باقتضاب، إلى الأسباب التي تحاول أنْ تفسّر تلك الاستكانة وذاك العزوف:1- في بداية العدوان الإسرائيلي على غزّة، انطلقت هبّةٌ طالبية وشبابية عربية بعامّة ضدّ هذا العدوان. لكنّها سرعان ما تلاشت، ودخل الأعمّ الأغلب مِن المدار العربي الطالبي في استكانةٍ تبدو دهريّة إذا ما قيست بزمن ارتكابات العدو الإجرامية في القطاع والضفّة. فكيف، والحال، يكون الذهاب إلى ذلك؟
2- في المقارنة الأوّلية بين الاحتجاجات الطالبية في الغرب، والهبّة الطالبية العربية، يظهر أنّ الأولى تملك في أن تستطيل أكثر لكونها أنسنتْ أهدافَ تحرّكها وعقلنتْها، في حين أنّ الثانية انطبعت بوجدانية خالصة وقد حاذرت أن توظّفها في بابٍ وطني أو سياسي ينفتح على تواصل احتجاجي مؤثّر على غير صعيد.
3- لقد تسلّحت عقلنة الاحتجاجات الطالبية الغربية بمدوّنة دستورية حول الحقوق المدنية، الفردية والجماعية، بينما لم يعثر الطلاب العرب على مدوّنة دستورية مدنية تُطبّق فعلياً في المجتمع، ويمكن أنسنتها وعقلنتها مِن باب احتجاجهم ضدّ المجزرة والإبادة.
4- ويأتي الإمساك بالأغلبية الساحقة مِن الجامعات العربية مِن قبَل السلطات السياسية في بلدانها، ليفسّر، من جهته، تلك الاستكانة لدى الطلّاب العرب. ذلك أنّ إمساكها تجلّى مِن خلال شبكةٍ أمنيّة لها على الأقل وظائف ثلاث: تعيين-مراقبة-اعتقال. فهي تعيّن رؤساء الجامعات وعمداءها ومجالسها التمثيلية، وتراقب حركات طلابها حتى إنها تحصي نفوسهم وأنفاسهم. ولذلك، لا يحتجّ هؤلاء في الأغلب، إلّا بعد «قبّة باط» مِن تلك الشبكة، أي بعد أن تحتسب مصلحتها في توقيت الاحتجاج وفي ميدان تحرّكه. أمّا إذا حاولوا أن يكسروا حاجز مراقبتهم الحديدي، فلا بد مِن أن يتعرّضوا إمّا للقمع العاري، ‏أو لاستضافتهم «الكريمة» في الأقبية المظلمة! وما بين ذاك وتلك تراهم قد آثروا مرغمين نعمة الاستقرار الخانع كما هي عليه حال الخلق في مجتمعهم.
أمكن للاستبداد العربي الدهري ليس فقط مِن أن يفرض الاستكانة على الطلاب والشباب، بل أيضاً مِن أن يحوّل الإنسان العربي إلى إنسانٍ مستقرّ


5- ربما يكون الطلاب والشباب العرب، قد نجحوا مؤقتاً في كسر طوقهم الحديدي في اللحظة الأولى لما يسمّى في لغة التغريب بالربيع العربي، حيث تظاهروا بأعداد كبيرة في الساحات والميادين في عواصمهم ومدنهم. لكن هذه اللحظة لم تلبث أن استوعبت، ومن ثم اضمحلّت، ما إن التقط النظام العربي الرسمي أنفاسه، ‏بحقنٍ غربية، وراح أغلبه ‏يمارس أبشع أنواع القمع ضد المتظاهرين، ويشحن تراثه الاستبدادي بطاقة فوّارة في ابتكار الأساليب والطرق الجديدة من أجل أن يضيفها إلى تراثه المعهود.
‏حينذاك، أجهضت اللحظة وتحولت إلى وليد مقطوع الصلات، لا تفاعل معه ولا تكامل. فكان أن دخل الطلاب والشباب في حال مِن اليأس والقنوط ‏وكلاهما ‏يحيلان إلى ضرب مِن الاستكانة والإعراض عن دفق الحيوية والنشاطية. وفي المقابل، تجذّر الاستبداد العربي وحوّل المجتمع إلى حطام بنيوي يملأ كل ضفافه.
6- على هذا أمكن للاستبداد العربي الدهري ليس فقط مِن أن يفرض الاستكانة على الطلاب والشباب، بل أيضاً مِن أن يحوّل الإنسان العربي إلى إنسانٍ مستقرّ، أي إلى إنسانٍ لا همّ له سوى أن يحيا مِن طريق «هبش» اللقمة! لذلك تراه قد أعرض عن الفعل السياسي، وبخاصّة عن القضايا الكبرى التي تعصف ببلاده.
‏ثمّ جاء ترهّل القوى الحزبية العربية، لا بل غيابها المزمن عن أي ديناميةٍ سياسية حقّة، يرسّخ ذاك الاستقرار وتلك الاستكانة، واللذين تحوّلا إلى نزوعٍ عميق وشمولي في ظل إحجام المرجعيات الدينية الرسمية عن أي دور تحفيزي للطلاب والشباب مِن أجل الاحتجاج ضدّ مجريات الحرب في غزة، لا بل إنّ هذه المرجعيات استكانت وهي «ضاحكة»! في صورة فولكلورية قوامها شيخ وكاهن مع رأس الاستبداد في هذا النظام العربي أو ذاك...
7- إلى ما تقدّم، هناك في المدار العربي الطالبي، بلدان لم يختبر طلابها وشبابها، لا التظاهر ولا الاحتجاج ولا الإضراب ولا الاعتصام... بل هم يعيشون الاستكانة المديدة في استقرار «متنعّم» بالأعطيات والمكرمات التي جعلت مِن مجتمعهم مجتمعاً للصمت المحدّب ومِن تسمية دولتهم باسم العائلة الحاكمة!
8- إنّ كل الاستكانة هذه في المدار العربي الطالبي، لا تحجب أن ثمّة مداراً عربياً، ولو ضيقاً في قوسه، شهد احتجاجاتٍ طالبية وشبابية ضدّ الإبادة الجماعية. لكن رغم أهمّية هذه الاحتجاجات التي تجري في بلدانٍ عربية معروفة، غير أنها لم تحفّز أترابهم العرب على التحرّك والاحتجاج في بلدانهم. ذلك أنّ الأخيرين ‏يبدو قد أخذت منهم خصلة الاستقرار والاستكانة مأخذاً كبيراً، وأنّ أنظمة دولهم تجهد في أغلبها، وبشكل حثيث، على حظر التداول حتّى في منطق الاحتجاج بين صفوفهم.
...‏آنذاك قد ترى المستقر أو المستكين لا يندهش حين ينظر إلى داخل «صندوق فرجة» يرتزق به مهمّش عربي، ويجد أمامه صورة قفرٍ وسيع، يعلوه سطر كتب بالحبر الأسود: إنّ الموات السياسي العربي الشامل، أخرج غالبية العرب مِن التاريخ.

* باحث في علم اجتماع المعرفة