لماذا تَدعم الولايات المتحدة إسرائيل بهذا الشكل المبالَغ به؟ حتى اليهود أنفسهم بَدأوا مؤخراً طرْح هذا السؤال؛ مجتمع غربي معادٍ هيكلياً للسامية شَنَق ليو فرانك عام 1915 في مكان عام في آتلانتا، يَتحوّل، خلال عقود قليلة، إلى داعمٍ متطرّف لإسرائيل. الإجابات البحثية (ناهيك بالتصورات الشعبية) بمعظمها غير متماسكة؛ من القول إنّ اليهود الأميركيين أَنتجوا كتباً ورواياتٍ تصحِّح النظرة إليهم وتَجعل منهم ديناً ثالثاً طبيعياً إلى جانب البروتستانتية والكاثوليكية (كما لو أن السود والعرب واللاتينيين قَصّروا في ذلك)، إلى القول إنّ المثقفين اليهود في نيويورك كان لهم دورٌ في إعادة صياغة الثقافة الأميركية نظراً إلى مركزية المدينة (السؤال هو كيف أصبح ذلك ممكناً؟).
ورغم أنّ إيلان بابيه أشار إلى دور اللوبي الإسرائيلي في توقيفه في أحد المطارات الأميركية مؤخراً، إلا أنه من الخطورة الاعتقاد بذلك، لأن وظيفة الحديث عن اللوبيات هي نزْع السياسة (depoliticize) عن الظواهر، وبدلاً من فهمها كبُنى ودينامياتٍ يمكن تحليلها تصبح عبارةً عن حملاتٍ مِن العلاقات العامة.
(انجيل بوليغان - المكسيك)

كما ذكرنا قبلاً، فإننا نَلتزم منهجياً بالنظر بنيوياً/سوسيرياً (نسبة إلى فردينان دو سوسير) ومؤسساتياً إلى مجمَل الإنتاج المعرفي ذي السلطة (authoritative knowledge) حول جماعةٍ ما (أو ظاهرة ما): في أي الحواضر الإمبريالية يتمّ إنتاج المعرفة حول هذه الجماعة المنشَأة، أي الهويات تُنتِجها، داخل أي قسم أكاديمي (والمناهج المعتمَدة فيه) وبالتجاور والتوتر مع أي أقسام (ومناهجها المتعارضة)؟ وما إذا كان الإنتاج فائضاً أم ناقصاً نسبةً إلى جماعات موازية داخل الهرمية الأكاديمية؟ خارطة التوزُّع المؤسساتي المعرفي هذه، وشكل هذا التوزُّع، هما وجودُ الجماعة نفسُه ونمط كينونتها السياسية والاقتصادية كما الأنطولوجية.
للأسف، ليس لدي إلمام باللغتَين الروسية والصينية لأتقصّى كيف تشكّلتْ أوروبا واليهود بشكل متعاضد بين الحواضر الإمبريالية في مرحلتَي ما بعد الحرب العالمية الثانية وما بعد الحرب الباردة، لكن الواضح أن دراسات الهولوكوست والعداء للسامية في الولايات المتحدة أُنتجتْ بشكل فائض (رغم أن ذلك لم يكن رغبة اليهود أنفسهم بدايةً)، وأن هذه الدراسات نأت بنفسها منذ البدء عن دراسات المهمّشين والدراسات النقدية، وارتأت أن تكون ضمن قسم التاريخ، وهو قسم محافظ منهجياً في الولايات المتحدة، مع ما لذلك من تعالقات سياسية. حجم الإنتاج المبالَغ فيه حول الهولوكوست والعداء للسامية في الولايات المتحدة هو من حجم وظيفتها: أن تكون الجهاز المعرفي الذي عبره يتمّ إنتاج المعرفة حول أوروبا؛ قارة محرّكها المركزي تاريخياً هو كراهية اليهود وإنكار تأثيرهم فيها. سؤال أوروبا كان مركزياً بالنسبة إلى الولايات المتحدة، وهي حاولتْ قبل الحرب العالمية الأولى أن تَخلق هويةً قارية أميركية عبر مبدأ مونرو، لكن ظروف الحرب العالمية الأولى أدّتْ إلى تحوّل رئيسي مرتبط بألمانيا.
هذه الدراسات نأت بنفسها منذ البدء عن دراسات المهمّشين والدراسات النقدية، وارتأت أن تكون ضمن قسم التاريخ، وهو قسم محافظ منهجياً


أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين، كانت الجامعات الأميركية مرتبطةً بالجامعات الألمانية أكثر بكثير من ارتباطها بالجامعات البريطانية. لم تكن الولايات المتحدة سبّاقةً في تبنّي النموذج الأكاديمي الألماني (نموذج هومبولدت، وحدة البحث والتعليم) فحسب، بل كان التقليد هو أن يسافر الأميركي إلى ألمانيا لإكمال الدكتوراه هناك. وكانت الألمانية لغة العلوم حول العالم، لكن في الولايات المتحدة كان هناك تركيز إضافي على تعلُّم اللغة الألمانية كمدخل إلى التحصيل العلمي. منذ منتصف القرن التاسع عشر كانت الثنائية الحواضرية برلين وفيينا (ومعهما اللغة الألمانية المشترَكة) قد استحوذتْ على المشهد العلمي والفكري العالمي بدلاً من الثنائية الحواضرية القديمة باريس ولندن. وضداً بالمدرسة النمساوية في الاقتصاد كان هناك «المدرسة التاريخانية في الاقتصاد» الألمانية (منغر ضد شمولير)، وكذلك في الفلسفة والقانون. الصدام المنهجي بين الحاضرتَين (methodenstreit) كان شاملاً لمختلف الأقسام. طغيان اللغة الألمانية على المشهد الفكري هو أحد دوافع طرْح بريطانيا لفكرة مقاطعة العلماء الألمان والنمساويين خلال الحرب العالمية الأولى.
لكن، وبخلاف بريطانيا، فإنّ حملة مقاطعة العلماء الألمان كانت إشكاليةً جداً بالنسبة إلى الولايات المتحدة التي كان عليها أن تجد إجابات حول علاقتها المعرفية بألمانيا تُضاف إلى إشكالية العلاقة الهوياتية مع أوروبا (المقصود أوروبا الجرمانية البروتستانتية، قبل أن يُنشئ الأميركيون أوروبا ككيان سياسي لاحقاً). بريطانيا أرادتْ في الحرب الأولى اختزال التاريخ والفلسفة الألمانيين إلى جرائم تلك الحرب، وكذلك أرادتْ الولايات المتحدة، لاحقاً، أن تَختزل التاريخ والفلسفة الألمانيين إلى الحرب العالمية الثانية والحرب نفسها إلى الهولوكوست. في المرحلة بين الحربَين، كانت هناك إجابة تتبلور تدريجياً في الولايات المتحدة حول أسئلتها المعرفية والهوياتية: بدلاً من الاستغناء كلياً عن ألمانيا يمكن استبدالها بالألماني اليهودي، الألماني الوحيد الجيد هو الألماني اليهودي (قبل الحرب لم يكن هناك «يهود أميركيون» بل كانوا ألماناً وروساً، «hyphenated Americans»)، لاحقاً بَدأتْ واشنطن تَستكشف أهمية توسيع المعطى اليهودي (الأوروبي حصراً) خارج ألمانيا، الأوروبي الوحيد الجيد هو الأوروبي اليهودي وصولاً إلى «الروسي الوحيد الجيد هو الروسي اليهودي».
دور دراسات الهولوكوست والعداء للسامية هو دور «الناتو»: إبقاء ألمانيا منكسرة، وروسيا خارجاً، والولايات المتحدة مهيمنةً على أوروبا. يَرفض اليهود مقارنة أوشفيتز بأي ظاهرة أخرى، ما عدا الغولاغ. هكذا يصبح في إمكان الولايات المتحدة أن تَعتنق أوروبا خاضعة مُعادة صياغتها. بالنسبة إلى واشنطن، فإنّ إسرائيل هي أوروبا الجيدة، تُبقي أوروبا المستبدَلة قيد المساءلة والمحو الممنهج، والتخلّي عن إسرائيل يتمّ فقط حين نصوغ إجابةً جديدة عن سؤال أوروبا.
رغم ثمانين عاماً من الصراع العربي الإسرائيلي، فإنّ الإنتاج الأكاديمي الأميركي حول اليهود العرب والسفارديم لا يمكن مقارنته بحجم الإنتاج الأكاديمي حول اليهود الأوروبيين، تاريخهم وتجاربهم السياسية والاجتماعية، والمحاولات الحثيثة مؤخراً لجعْل سبينوزا بدل ديكارت أو كانط أصلَ الحداثة الغربية. الهدف هو إخضاع أوروبا وليس اليهود أنفسهم. حماسة المقدوني للفينيقيين ضداً باليونان أشدّ من حماسة سعيد عقل!
* باحث