كان مشهداً حزيناً، بالطبع، ذلك الذي نقلته الشاشات اللبنانية لعملية تشييع الشهيد عباس كرنيب، التقني في تلفزيون «المنار»، والذي أصيب في متفجرة حارة حريك الأخيرة. لكنه كان أيضاً مشهداً معبّراً ومعتبراً: الشاشات اللبنانية تتوحد في نقل حدث التشييع. تتوحد كلها من دون استثناء: هي لا تتوحد في العادة، إلا على نقل بعض المناسبات والمهرجانات السياسية الخاصة التي لا يقال فيها، غالباً، كلام توحيدي أو حتى وطني! ثم إنّ بعض الشاشات وبعض الإعلاميين قد تحوّلوا الى متاريس سياسية تضخّ التشنّج والاتهامات، وتغذي الأحقاد والغرائز، وتمجّد العنف والتطرف، وتستسهل التخوين والتكفير السياسي وغير السياسي.

ويتقدّم، في مجرى ذلك، طلّاب شهرة ومال وصيادو فرص وشبيحة، ليصبحوا «نجوماً». ولا تلبث أن تظهر عليهم آثار النعمة، قصوراً ومؤسسات ومرافقين... ويشجع على ذلك ما تزخر به بعض تقاليد العمل السياسي في لبنان من انفلات وفساد و«شطارة» وعدم مراقبة ومحاسبة...
لا ينطبق هذا الأمر على كل المؤسسات الإعلامية ولا على أغلبية الإعلاميين. فبين الإعلاميين، خصوصاً، مناضلون حقيقيون، يوجّههم شعور عال بالمسؤولية، واستعداد كبير للتضحية، وسعي أكيد للوصول إلى الحقيقة وإعلانها... هؤلاء كادحون، غالباً ما دفعوا الثمن في ميادين الممارسة: دفعوه من حياتهم أو من حقوقهم أو من لقمة
عيشهم.
الأرجح أنّ هؤلاء هم من دفعوا مؤسساتهم نحو التوحد في نقل مباشر وشامل لمراسم تشييع الشهيد عباس كرنيب وبأروع صورة ممكنة. يطرح هذا الأمر، في جملة ما يطرح، مسائل عديدة. بعضها إعلامي، من نوع ضرورة تطوير التضامن والتعاون بين الإعلاميين في وجه مخاطر المهنة، ومن أجل فرض بعض الشروط على المتصارعين، ومن أجل تقديم تعويضات مناسبة من قبل المؤسسات ومن قبل المتسببين بالخسائر البشرية والمادية والمعنوية.
وفي امتداد ذلك، فلقد بات من الملحّ أن يلتفت الإعلاميون إلى مؤسستهم الوليدة، أي نقابتهم التي ما زالت في مرحلة التأسيس. إن إعادة بحث وتقويم يجب أن تحصل من قبل الجميع لتعزيز هامش حدود واستقلالية العمل المهني. ويتطلب ذلك صياغة مجموعة بنود ذات طابع نقابي ومهني
وديموقراطي. وتستطيع النقابة الحديثة أن تشرع في ذلك، وأن تتواصل لهذا الغرض مع كل الإعلاميين في كل المؤسسات المرئية والمسموعة. وبديهي أن يجد رئيس النقابة (المعروف بحرصه ومرونته) وزملاؤه الوسيلة المناسبة لمباشرة هذا النقاش، ليصار بعد ذلك إلى إعادة صياغة خلاصاته والمقدمات، في محصلة نهائية يجري طرحها بهدف تأمين أوسع دعم وتأييد لها، ولتصبح برنامج عمل يمكّن النقابة الجديدة من أن تعيد تأسيس نفسها من جديد، وبكل المشاركة المهنية الضرورية
المطلوبة.
ليس في تقاليد الإعلام المكتوب الكثير مما يُبنى عليه ويُستفاد منه. لقد خضع المسار النقابي هناك لالتباسات وفئويات ما زالت تعطل دوره المهني والوطني المطلوب. لا ننكر طبعاً بعض الإيجابيات، في مجال الدفاع عن التنوع والتعدد والحريات. ولذلك فإن دور العمل النقابي في المرئي والمسموع (مؤسساته هي التي تتوسع الآن وهي الأكبر والأفعل) قد يصبح دوراً رائداً على المستوى المهني إذا ما جرى التعامل مع التعقيدات والصعوبات القائمة، بحرص وكفاءة ومثابرة.
ويستطيع هذا الأمر أيضاً أن يشكّل عاملاً مؤثراً في تصويب مسار الوضع الإعلامي العام. لقد استحدث «المجلس الوطني للإعلام» بعد «الطائف». وهو يستطيع أن يؤدي دوراً أكثر فعالية ارتباطاً أيضاً بتطوير مهمته وزيادة تأثيره وصلاحياته في صنع السياسات والتقاليد الإعلامية التي تحدّ من الفوضى والاحتكار، بمقدار ما تعزز من مناخات الحرية والمسؤولية وتخدم الثوابت الوطنية الحقيقية التي يجب أن يتوحد من حولها اللبنانيون أو أكثريتهم على الأقل.
لا شك في أن مساراً من هذا النوع سوف يمارس، أيضاً، تأثيراً وطنياً شاملاً. وهنا نصل إلى الدور الوطني للإعلام. فالإعلام في بعض الحقول سلطة أولى وليس «سلطة رابعة» كما يُسمى. وهو يستطيع أن يمارس دوراً إيجابياً في ورشة أوسع لتصحيح الاختلالات العديدة التي تضرب الوضع اللبناني، والتي تظهر بعض نتائجها اليوم بصورة مخيفة. وأول هذه الاختلالات، كما أشرنا سابقاً، في التحريض الإعلامي غير المسؤول، وفي تحويل هذا التحريض إلى مادة سامة يتجرعها اللبنانيون لكي يذهبوا سريعاً إلى الاقتتال والاحتراب والموت والتشرد والدمار، مرة جديدة!
هل هذه أوهام وأحلام؟ هي في جانب منها كذلك! لكنها، في الجانب الأساسي، حاجات حقيقية يفتقر إليها الجسم الأكثر حيوية واتساعاً الآن، أي الجسم الإعلامي في المؤسسات المرئية والمسموعة. وهذه الحاجات هي التي كانت نقطة الضعف الخطيرة، بل القاتلة، في تجربة النقابتين أي نقابة الصحافة ونقابة المحررين الموحدتين، على غير أسس سليمة، في «اتحاد الصحافة اللبنانية».
في منطقة لم تتسع للتنوع وللحرية ولحق التعبير، شكّل لبنان واحة إعلامية مميزة وفريدة. لم تكتمل التجربة من خلال تطور مطّرد يطاول الجوانب المهنية والنقابية والوطنية. هذا إلى الكثير من مظاهر التفلت والارتزاق والتبعية التي لا يتحمل العاملون أي مسؤولية عنها. اليوم أصبح الأمر ذا أهمية وحساسية خاصة: هل يمكن أن يمارس الإعلام دوراً وطنياً شاملاً؟ هل يمكن أن يكون مشاركاً في وأد الفتنة لا في تأجيجها؟ هل يستطيع الإعلاميون أن يتحرروا من ربقة التمذهب والتطرف والمبالغة أو، على الأقل أن يحاصروا مثل تلك الحالات؟
هذه الأسئلة وسواها لا بد من أن تتكامل، بل وتتجسد، في جهد سريع وجدي ومثابر من أجل بناء أداة نقابية تعبّر عن مصالح الإعلاميين بالدرجة الأولى، وتستطيع، استناداً إلى ذلك، أن تنهض بدور مؤثر في محاولة إنقاذ لبنان مما يتهدده من مخاطر داخلية وخارجية.
من دون نقلة نوعية، ستبقى حقوق العاملين في الإعلام، كل الإعلام، ضائعة، وسيبقى الإعلام جزءاً من المشكلة الوطنية بدل أن يكون عاملاً مساعداً في حلّها.
* كاتب وسياسي لبناني