حوّل الاحتلال الصهيوني بناره، بلدة «يارون» الجنوبيّة إلى هدف عسكري منذ بداية عدوانه، فكثّف غاراته وقصفه عليها، ما أجبر غالبية السكان على النزوح. هذا العدوان الجائر لا يأتي من فراغ، فبين الاحتلال وسكّان القرية ثأر قديم، تشعله نقمة العدو العارمة التي لا تبدأ من اللافتة المشيرة بسهمها إلى فلسطين ولا ينتهي بمواجهات عدوان تمّوز (يوليو) 2006 واستهداف قاعدة ميرون الجوية المقابلة.لا يتسنّى لأهالي القرية الجنوبيّة زيارة منازلهم متى شاؤوا بسبب إجرام العدو. لكن سنحت لهم الفرصة يوم الجمعة الماضي، في مناسبة تشييع الشهيد حسن صعب الذي قضى بغارة استهدفت أحد منازل البلدة. انتشر الأهالي في الأحياء والأزقة حول الساحة القديمة. لم تتمكّن سيلفا علوية من حبس دموعها أسفاً على الدمار اللاحق بمنزل جدها لوالدتها فياض الرضا، الذي بنى قناطر منزله الحجري في خمسينيات القرن الماضي، بأموال جناها من عمله في الأرجنتين. تشير علويّة إلى الغرفة التي ولدت فيها قبل 45 عاماً وإلى الفرش والأرضيّات التي كانت تجمعها مع أقربائها عندما كانوا ينزحون عكسياً من بيروت إلى يارون هرباً من الحروب الأهليّة. رغم الركام، ثبتت صورة الرضا على الحائط. وفي غرفة الجلوس، لم تهتز صورة الجدّة قطف التي تعلو الأثاث المتضرر. غالبت دموعها وهي تواسي جدتها التي توفيت قبل خمس سنوات: «الحمدالله أنك متتِ قبل أن تري ما حل بدارك وبالشبّان الذين يستشهدون دفاعاً عن هذا البيت وسواه». لم تدرك علويّة أنّ زيارتها منزل جدّها، ستكون الوداع الأخير. بعد أقل من 24 ساعة، أحالته غارة صهيونيّة إلى كومة حجارة.
في زقاق آخر في الحارة القديمة، يتساوى مقام الخضر و«كنيسة مار جرجس» بحجم الدمار اللاحق بهما جراء القصف، فأصبحت الكنيسة بلا سقف بعد سقوط القذائف المدفعية. يعدّ هذا الضرر اللاحق بالمقام والكنيسة، الأصعب بين أكثر من 50 منزلاً مدمّراً. دمار عدوان 2023، فاق بكثير الدمار الذي نتج من عدوان تمّوز 2006، لكن الحجم لا يزعزع الثأر القديم بين الاحتلال وأهل يارون. هذه البلدة الواقعة في الجانب المحرر من الجنوب، بمنخفض يتوسط تلال رميش ومارون الرأس، ارتبطت ارتباطاً وثيقاً بجارتها فلسطين. يتحدّث رئيس بلديّة يارون علي تحفة عن سرّ الارتباط التاريخي مع فلسطين المحتلة وانخراط يارون بالقضية الفلسطينيّة، قائلاً: «التداخل الجغرافي والاجتماعي والاقتصادي توجته لاحقاً دماء المقاومين الذين سقطوا على طريق القدس منذ ما قبل نكبة عام 1948. أجدادنا لم يعرفوا طريقاً إلى النبطيّة وصور والعمق اللبناني. كان مرجعهم التجاري والمهني والعلمي والطبي، في المدن الفلسطينيّة بسبب تطورها على المستويات كافة، وقد كان يسبق بأشواط الواقع في الجانب الجنوبي. الليرة الفلسطينيّة كانت تساوي عشر ليرات لبنانيّة، فيما كانت حيفا ويافا والقدس والناصرة ونابلس، أسواقاً لتصريف الحبوب والتبغ والخضر والبيض والمواشي والألبسة وزيت الزيتون من يارون». يلفت تحفة إلى أنّ المعبر في زمن الاستعمار الإنكليزي كان يقع عند بركة رام جغيا، حيث بنى الجيش الإنكليزي مركز الحجر الصحي المعروف بالـ «كرنتينا» عند تلّة لا تزال تعرف باسمه حتى الآن. كان يوفر هذا المركز وغيره من المراكز فرص عمل لأبناء يارون داخل فلسطين قبل نكبة 1948. والـ«مكاري» كانت من أبرز المهن التي تنشط على طريق فلسطين، كما مهنة نقل الأشخاص والبضائع على الدواب عبر الحدود من وإلى فلسطين، لمصلحة التجار الفلسطينيين الذين كانوا يفدون إلى سوق بنت جبيل للقاء تجار جبل حوران. كما نشط بعضهم في مهنة تبييض النحاس أبرزهم محمود حداثا، وآخرون في حفر الآبار كحسين فرحات الذي وصل إلى رفح وبئر السبع.
ويبقى الثأر الذي لا يمكن للعدو فكّه بينه وبين يارون عدا الهزائم المتلاحقة، هو دخوله من تلّة الحدب لاجتياح الجنوب عام 1978 وخروجه من التلّة نفسها لدى تحرير الجنوب عام 2000.