عند بداية العدوان الإسرائيلي على جنوب لبنان، عاند أهل البلدات الحدودية محاولات الترهيب والتهجير بالصمود في منازلهم وبزرع أراضيهم. غالبية المقيمين هناك، يعتمدون على الزراعة في تحصيل معيشتهم. على طول الخط الأمامي من حولا إلى مارون الرأس والناقورة، ازدانت الحقول بسنابل القمح التي زُرعت في الخريف، فيما نبتت وحدها في حقول أخرى تقع في المربعات الأكثر استهدافاً بالغارات والقصف والتمشيط. حالياً، حان وقت حصاد القمح ودراسته، منهم من جازف بحياته وحصد الموسم ومنهم من ينتظر الهدنة المرتقبة.في حقله في أطراف بلدة شقراء، يحار حسين ويزاني من أين يبدأ بجمع غمار القمح. قبل أسبوع، كان يتشارك مع شقيقه علي مهمة الجمع ودراسة السنابل، كما تشاركا مهمة الزرع والحصاد. لكن علي (45 عاماً) صار شهيداً بعد يومين على إنجازه حصاد موسمه. في السابع والعشرين من أيار (مايو) الماضي، سقط علي ويزاني في الغارة الإسرائيلية التي استهدفت مدخل «مستشفى الشهيد صلاح غندور» في بنت جبيل (جنوبي لبنان). اصطحب نجله محمد (19 عاماً) إلى عيادة إحدى الطبيبات وتزامن سقوط الصاروخين مع خروجه من مدخل المستشفى. استشهد ويزاني على الفور، فيما أصيب محمد بجروح وكسور. على كرسي مدولب، جلس يستقبل المعزين بذهن شارد لم يستوعب حتى الآن ما حصل. عمه حسين لا يلتزم بالجلوس طويلاً في مجلس تقبّل العزاء. يمضي غالبية وقته في الحقل والمزرعة التي كان يشغلها مع الشهيد علي. «أفضّل البقاء هنا. أشعر بأنّ علي لم يرحل. لا يزال صوته وطيفه بين حقول القمح والعدس والشعير وشتول التبغ وبين المواشي والمراعي». يشعر حسين بإرباك في متابعة شؤون الحقول والمزرعة بمفرده. منذ أكثر من عشرين عاماً، تفرّغ مع علي للزراعة وتربية المواشي التي ورثاها عن والدهما محمود. وبحسب شقيقهما، قاسم ويزاني، فإنّ علي «سافر إلى الكويت بعد تحرير الجنوب لافتتاح مشروع زراعي، لكنه لم يتأقلم بنمط المعيشة بعيداً من الضيعة. عاد ليفني حياته في أرضه». والد الشهيد، توقّع له مصير الشهادة منذ بداية العدوان. «لم تردعه الغارات عن التحرك بين أرضه في أقصى أطراف شقراء حيث تتعرض للاعتداءات وبين وادي السلوقي والبلدات المقابلة من حولا وميس الجبل إلى عيترون وكونين. كان نداء الأرض أقوى من صوت الغارات، رافضاً الرضوخ لما تريده إسرائيل من تحوّل أرض الجنوب إلى بور».
صمود ويزاني الذي قاده إلى الشهادة، يشبه مصير الشقيقين المزارعين محمد وعلي قاسم اللذين ثأرت إسرائيل من بقائهما في بلدتهما حولا الحدودية قبل ثمانية أشهر. في تلك المدة، لم ينقطعا عن رعي المواشي وحرث وزراعة حقول من نزح من الأهالي من حولا والبلدات المجاورة. غارة استهدفت منزلهما أول من أمس ليستشهدا تحت ركامه. الشهادة احتمال يزداد وروداً مع تصاعد العدوان والجنون الإسرائيلي من المواطنين الرافضين للمغادرة. في ميس الجبل وعيترون وبليدا ويارون ومارون الرأس، كثر زرعوا أراضيهم، ظناً منهم بأن الحرب لن تطول. لم يكن في حسبانهم بأن موسم الحصاد سيحين في ظل العدوان. القيمة المعنوية والمادية للمواسم دفعت البعض إلى المجازفة مهما كان الثمن. غسان الحاج وسعيد حمادي زرعا القمح والحبوب بمحاذاة الشريط الحدودي في بلدتهما ميس الجبل عند بداية العدوان. أخيراً، غامرا بحياتهما لكي يحصدا الموسم بالمناجل. يقول الحاج إنّ ساعات الحصاد كانت مواجهة بين الحياة والموت في مقابل المواقع المعادية في العاصي وبياض بليدا. «لكن الأرض والرزق ثمنهما دماء من زمن الأجداد».