لم يكن أحد في الحي المطلّ على نهر أبي رقراق أفضل من الآخر. لقد كان حيّاً يعجّ بالموبوئين والمعاقين، لم تضع النسوة مخلوقاً سوياً، لم يكن مهماً بالنسبة إليهن أصلاً، لم يعرفن أكثر من الاقتراب من أزواجهن في السرير ليحبلن ويشعرن بأنوثتهن التي جرفها نهر أبي رقراق.كنّا متساوين في كل شيء، محكوماً علينا ببؤس أبدي، إعاقاتنا لا شفاء منها، لم تكتشفها أمهاتنا، ولا عرف عنها آباؤنا شيئاً، حتى هم كانوا معاقين، كل واحد في هذا الحي المتآكل مصرّ على إخفاء خليقته، لم تكن الإعاقات جسدية بقدر ما كانت متعلقة بالأنا الغامر فينا الذي لم يشهد سوى المآسي.

بروغل الأكبر ــ «أمثولة العميان» (زيت على قماش، 1568- تفصيلي)

غير بعيد، وفي آخر الحي، كانت تسكن عائلة، مضت عليها عشرون سنة أو أكثر. ما زلت أبحث عن وصف أُقَدِّمُها به، لم أجد غير «عائلة سريالية» كوصف مناسب لهذه العائلة التي كانت مرآة لتشوّهاتنا. الزوجة تقترب من الأربعين، حنطية الوجه، غير مهذبة الملبس، ترتدي ملاءة سوداء، أنجبت من زوجها الذي كان حدّاداً ولدين وبنتاً، وكانوا معاقين إعاقة كلية، يشبهونَها شبهاً كبيراً، سوى في بعض الاختلافات التي فرضها الجنس، يمكن أن تصفهم هكذا: عائلة معاقة تتكون من أربعة أشخاص، أمٍّ وولدين وبنتٍ، أمهم أيضاً معاقة إعاقة ذهنية. يظهر ذلك من ملابسها غير المهذبة، حتى إنّها لا تخيط ما تقطع منها، ولا تغيرها. نساء الحي كلهن فقيرات، لكنهن يغسلن أبناءهن، ويغسلن أنفسهن، ويغسلن الأسمال، ويخطنها. على عكسهنَّ، تبدو معاقة من مظهرها ومن شكلِ أطفالِها المتّسخين دوماً، ومن ملابسهم، ربما أصبحوا معاقين بسببها. الولد الكبير وجهه غريب جداً، منمّش بنمش طفيف وغريب، يبدو وجهه وجه مجرم، لكنه متبلّد بشكل غير مقبول. عيناه غائبتان في جبهته المسطحة، تلمعان قليلاً، تحت أنفه مخاط جفّ فوق شاربه بالضبط، مخاط طفيف فقط، لكنه لا يختفي إطلاقاً. شعره مجعد، جثته غليظة قليلاً. رغم ذلك كان أطفال الحي يقومون بسحله بشكل دوري من دون أن يملّوا. وحينما يملّون، يرمونه بالحجارة وزجاجات البيرة والقطط الميتة. لم يكن يبكي إطلاقاً سوى أنه يحاول الانفلات منهم وتجنّب رمياتهم، يجلس دائماً مقرفصاً، بجانب باب بيتهم الخشبي المرصّع بمزلاج على الواجهة الخارجية. يجلس ضاماً ركبتيه لبعضهما البعض. يدخل يديه بينهما، كمّ قميصه الذي يظهر من تحت الجاكيت التي لا ينزعها جف. يمكن أن تلاحظ أثر التشققات التي يحدثها فوق شاربه، يرفع ذراعه من دون مناسبة، يوجّه الكمّ إلى أنفه، يسحب بقوة مرة واحدة، يختفي المخاط أو يلتصق بجفنه. أخوه الأصغر لا يختلف عنه كثيراً، سوى أنه أقل منهما حجماً وطولاً، وجهه غريب ومتصلّب، عظمتا وجهه حادتان، تظهران بشكل بارز قليلاً، تغيب فيهما عيناه في رأسه، شعره متجعد، يميل إلى لون القهوة. أذناه كبيرتان ومعقوفتان بطريقة بشعة، لا يتحدث ولا يفكر، يظهر أحياناً يسار الباب ثم يختفي بسرعة، تصادفه في أماكن كثيرة، لكنه يختفي بطريقة محيّرة، ينجو دائماً من أطفال الحي المنشغلين برمي وسحل أخيه الأكبر ذي الشكل الغريب والضخم الذي لا يغادر عتبة الباب. يمكن تخيّله يخور وهو يدافع عن نفسه، لكن الأطفال ألفوا خواره، لم يعد يخيفهم. أختهم الصغرى وللمفارقة شقراء، لا يمكن إطلاقاً أن تكون شقراء، لكنها كذلك، وجهها أبيض بشكل مستفز، أبيض كلون فئران التجارب، حولاء العينين، رقيقة جداً، مشيتها غريبة ومعوجَّة مثل أخيها الأكبر، كما أنها معاقة ذهنياً أيضاً، إضافة إلى أمهم المعروفة بمهنة زوجها.
لم تكن لهم أسامي إطلاقاً، لم يسمّهم شخص بأسمائهم أبداً، ينسبونهم إلى مهنة والدهم الذي مات قبل أن أعرفه، يسمّونهم بمهنته الغريبة جداً، والنادرة: أولاد الحدَّاد، وينادون أمهم بِـ: امرأة الحداد.. هكذا كان يُسَمَّوْن في الحي، مجرَّدين من أسمائهم الحقيقية التي لم يكن يعرفها أحد.
سمعنا ذلك اليوم أن امرأة الحداد تزوجت بشخص آخر. شخص غريب لا نعرفه أيضاً. أصبح الناس يسمونه بزوج امرأة الحداد. يأتي دورياً إلى دار الحداد، قالوا إنه تزوجها بقراءة الفاتحة فقط، لكن لم يكن يعرفه أحد، ولم يستوقفه أحد ويسأله، إضافة إلى أنه كان غريباً ومخيفاً جداً، مخيفاً بشكل أكثر من اللازم ومن دون دعوى، هذا الرجل مرتبط بجزء كبير من ذاكرة الحي المعاقة، رجل فارع الطول، يأتي دورياً وبثقة إلى دار الحداد، وجهه جاف جداً، عيناه لا يمكن تمييزهما، لا يرفعهما أبداً. لا يلتفت يميناً ولا يساراً، تتحرك يداه كأنه يحادث شخصاً، أو يحدث نفسه، لكنه صامت، يلبس سروال جينز رمادياً قديماً نوعاً ما، يتّسع السروال من دون سبب عند رجليه فوق النعل الأسود الذي لا يتّسع لقدميه. يلبس جاكيتاً يشبه لونها لون البذلة العسكرية، لكنه لون باهت جداً. يطوي كميها بطية واحدة، يظهر ذراعاه دون المرفق أسمرين بشكل مقرف، بسبب الشعر المغبر الذي يكسوهما. يصل باب زوجته امرأة الحداد، يجد ابنها البكر متصلباً عند الباب. يفرك شعره بيده الطويلة، يدفع الباب ويدخل. يصل باب زوجته امرأة الحداد، يجد ابنها الأصغر واقفاً عند الباب، يربت على كتفه بيده الطويلة، يدفع الباب ويدخل، لم يكن ليتغير أو يغير طرق مجيئه، كنا نراقبه، يأتي بشكل دوري، يقضي ساعة أو ساعتين عندها ثم ينصرف، ثم سمعنا فجأة أنّ زوج امرأة الحداد مات. ليس الحداد الذي مات، بل الشخص الغريب الذي سمعنا أنه تزوجها بالفاتحة. لم يمت عند امرأة الحداد، بل مات في بيته، جاءت نساء الحي إلى بيت الحداد يعزّين المسكينة في وفاة زوجها الغريب الذي لا يعرف أحد من أين أتى. جئن إليها يخففن عنها الحزن وهي تبكيه، وأخبرنها أنه عليها أن تعتدَّ، وأن لا تتزين.
مرّ أسبوع حتى رأينا رجل امرأة الحداد الذي مات ينزل من الحي قاصداً البيت، لقد لاحظنا نحن أبناء الحي زومبياً حقيقياً يعود من الموت! إضافة إلى شكله الغريب والمخيف، ها هو قد مات ثم عاد من الموت. هزة نتعرض لها ونحن نراقبه يدخل على زوجته، ثم يخرج كما كان يفعل سابقاً. يزرر سرواله أمام الجميع، يستغرق في ذلك عشرة أمتار أو أكثر، ثم يمضي بكل ثقة.
خفت وقتها كثيراً، خفت أن يطاردنا نحن الصغار أيضاً، من يدري...
بعد أن عاد من الموت، نَفَخَ بطن امرأة الحداد، حملت منه وأنجبت توأمين. أنجبت توأمين من الرجل المخيف الذي مات ثم عاد، وكانا معاقين أيضاً! لست أدري أين الخلل، ومن هو سبب الإعاقات، لم يتساءل أحد، لقد ألفنا أنّ أبناء امرأة الحداد معاقون دوماً مهما كان والدهم..
لم يتغير شيء سوى أن الأيام مضت، ولم يعد زوج امرأة الحداد يظهر في الحي، وكبر الأطفال الثلاثة المعاقون، وكبر التوأمان المعاقان، وكبرت امرأة الحداد، ولم يعد يأتيها أحد، ولم تجد ما تأكله سوى ما تحصل عليه من الجارات أو من التسول أو ما تجمعه من المَفَارِغِ العمومية، وتوقف الأطفال عن سحل ابنها البكر المخيف، الذي تعملق بشكل مرعب وكبر رأسه، وازداد خواره خشونة.
تدبرت امرأة الحداد ركناً في وسط المدينة، ركناً في الشارع ذي الحركة والزحام الشديدين، سوت لمعاقيها برَّاكة (1)، امتهنت بيع النعناع، ازدهرت شيئاً فشيئاً تجارتها، أصلحت البراكة نوعاً ما، أصبحت تخفي المعاقين المضحكين والكثيرين، تنهض صباحاً، تحزم رَبطاتِ النعناع الكثيرة، تضعها بشكل متساوٍ وهندسي، تشكل صفاً طويلاً، ترشّه بدلو ماء، يشتري الناس نعناعاً كثيراً. يقفون جميعاً، الأبناء المعاقون وامرأة الحداد، مجنَّدين، يقف الابن البكر ذو القامة العملاقة عند جهة النعناع الأخرى، يحمل عصاه كرجال الباركينغ، مظهره مخيف، عيناه تراقبان المارين بجد، أي طفل تسوّل له نفسه مباغتتهم وسرقة ربطة نعناع سيكسر ظهره، أي شخص يسخر منهم أو يعتدي عليهم سيهوي على رأسه. تعمل البنت الوحيدة الحولاء بخفة في تحضير النعناع من كيس الجوخ وتقطيعه ووضعه حزماً متساوية، ورشّه، بينما تهتم الأم بالبيع، يساعدها الابن الأوسط. قبل ذلك، تدبّرت امرأة الحداد كرسي شاحنة، لا أدري أين وجدته، شاحنات كثيرة تتعطل في هذا البلد، تبدو فكرة جلب كرسي شاحنة لِتُجْلِسَ التوأمين عليه فكرة سريالية غارقة في الأسى، غير أنها كانت فكرة ذكية لإراحتهما. تسنده إلى الحائط، تُجلسهما فيه، تظهر من جانبيه خرقة صفراء، ينشغل به التوأم، يبدو المشهد تراجيدياً أكثر، كما تبدو العائلة مأساوية، يقفون كلهم في صف طويل كأنّ أيديهم متشابكة. يقف الابنان المعاقان على الطرفين ووسطهما أمهما امرأة الحداد المعاقة وهي تصفّف حزم النعناع الخضراء، وخلفهم في إطار الصورة البنت الشقراء المعاقة تحضر الحزم من كيس الجوخ بتساوٍ وبخفة وحزم. وفي آخر الصورة يظهر كرسي الشاحنة المسند إلى الحائط، يجلس عليه التوأمان المعاقان.
مشهد غارق في البؤس والقذارة والسريالية، غير أنه مشهد حقيقي وليس قصة يحكيها قاص أو روائي أو فانتازيا مترجمة، لم يكن قصدي من الوصف السخرية منهم، أو تجريحهم، وإنَّما لأتصالح عبرهم مع إعاقتي. يمكن دمجنا في اللوحة حتى نحن أبناء الحي وزوج امرأة الحداد الرجل الغريب، والحداد نفسه الذي مات قبل أن أعرفه، كلّنا معاقون، معاقون إعاقات حركية وذهنية، نشد أيدي بعضنا ثم نفلتها ونتساقط في الزمن واحداً تلو الآخر. تزداد اللوحة غموضاً، يتقوّس ظهر امرأة الحداد، تسقط أسنان ابنتها الشقراء الرقيقة الحولاء، يزداد ابنها الأكبر تعملقاً، يختفي الابن الأصغر في العبث، يذبل النعناع البلدي، ويتآكل كرسي الشاحنة الذي يجلس عليه التوأمان المعاقان ابنا الرجل الذي مات ثم عاد، والمارّون لا ينقطعون!

(1) كوخ من القصدير.
* بروكسيل/ المغرب