1.

صندوق البريد مُثبت عند مدخل الطريق، وسط نبات السرخس. عندما فتحته، لم أجد في داخله سوى يرقة بُنِّية الأهداب، فأغلقته، وأنا أشعر بالحرج لأنني أزعجت قديسة وهي تأخذ زينتها.
كل فراشة تنبعث من رسم خطة الله على ورقة هوائية ستَتَجعَّد قريباً.
تستعيد فراشة قوتها على حجر. ترفرف أجنحتها فَهْدِية الألوان ببطء مثلما نتصفح كتاباً قديماً يوشك أن يسقط وقد صار غباراً.
عندما سألت جاكلين دي غويْني (2) التي ترقد في دار رعاية المسنين، إذا كانت قد انتهت من تناول الطعام، قالت: - ليس تماماً، بقيت النجوم والعناكب. أعمال الرب الكاملة تقف في توازن فوق زهرة الحُوذان.
صندوق البريد عبارة عن غرفة ضيوف، بدأت تبتلعها نباتات السرخس، لا يهم، فالرب يعرف عنواني. بقدر ما أتحدث كثيراً عن الرب، سيعتقد الناس في نهاية الأمر أنني أعرفه.

2.

تساقطت أوراق البلوط وظهر عش طائر القيق. الشيخوخة وهم.
عندما توفي الرسام الياباني هوكوسايْ (3) عام 1849، جعل الحياة عبر رسوماته أكثر عنفواناً عشرة آلاف مرة مما كانت عليه قبله. ولا شك في أنّ هذا هو العمل الذي يجب على كل إنسان أن ينجزه في حياته: فرك القطعة الذهبية التي وُضعت في أيدينا عند ولادتنا، ليزداد بريقها عشرة آلاف مرة عندما يسرقها الموت منّا.

هوكوساي ـــ «النمر العجوز الذي يقفز في الثلج» (حِبر وأصباغ على حرير، 1849).

رسم هوكوساي الأسماك والصيادين، الزهور والطيور، الغواني والحرفيين، الأخطبوطات والشياطين، عدداً من الشياطين، يرتدون أحياناً جبة الكهنة. ثم أنجز آخر أعماله «النمر العجوز الذي يقفز في الثلج». وكان في التاسعة والثمانين من عمره عندما اصطاده بطرف فرشاته.
للنمر رشاقة ملائكية كأن عظامه، لحمه وروحه أكثر من حرير وندف ونسيم. يقفز بين فرعين منخفضين لشجرة مكسوذة بالثلوج، تبدو أطرافها الشائكة التي تخترق اللون الأبيض كأنّها مخالب. صار كل شيء نمراً، صار كل شيء ثلجاً. إن خفة الحيوان ـــ فهو ينزلق بين ندف الثلج من دون أن يلمس ندفة واحدة ــــ هي خفة الصياد وقد غيرته رؤية الطريدة، وتحرر فجأة من غريزة الموت.
للنمر رشاقة ملائكية وكأن عظامه، لحمه وروحه أكثر من حرير وندف ونسيم. يقفز بين فرعين منخفضين لشجرة مكسوة بالثلوج، تبدو أطرافها الشائكة التي تخترق اللون الأبيض كأنها مخالب.
في ردهة دار المسنين، مررت بغرفة بابها مفتوح. يسود بها جو حرب خاسرة. مثل ملاك دوخته الضربات وطرحته أرضاً، رجل عجوز مرهق يسير نحو النافذة. يدير ظهره للتلفزيون بعدما أوقف الصوت وترك الصور.
نمر أبيض يعبر الشاشة ببطء. هذه الرؤية تعميني وهذا العمى يجعلني أرى، إذ لا توجد حرب خاسرة بشكل نهائي. في ليلة ما، سيعود النمر الأبيض إلى غرفة الرجل العجوز الذي سينقذه هذا الظهور.
تنفتح القبور الواحد تلو الآخر مثلما تتفتح الزهور.
الروح نمر صغير يقفز فوق الموت.

3.

حِبْر رامبو الذي لم يجف يلطخ أصابعي. نثره يحرك الهواء فوق الصفحة مثل طريق ذابت في شمس الصيف. سأحصل على خبزي وسحابي ونجومي من المكتبة الوحيدة في بلدة لوكروزو. تنتصب شجرة السنط في أسفل شارع لُوكيد مثل مُتبرع مجنون. تفوح من أنفاسه رائحة العسل والذهب.
تندفع نحونا كل الزهور، وتترك لونها وبراءتها وهي ما زالت على قيد الحياة. تأمّلها يسمو بالحياة.
شقائق النعمان ساذجة جداً، حتى إنّ الجحيم يوافقها. الخشخاش بقمصان حريرية حمراء يعبر نهر الهواء.
مئات البتلات بحجم جفون الدمى تضيء أرصفة سانت ماري لا بْلانْش باللون الوردي.
علمت هذا الصباح بوفاة رامبو عبر رسالة من أخته إيزابيل، ثم ذهبت إلى الحديقة لأقطف غصناً من الليلك الأرجواني. صعدت روحه العطرة الصغيرة بخفة إلى السماء المفتوحة.

(1) كاتب وشاعر فرنسي (1951-2022). ذاع صيته عام 1992 عبر كتابه «الوضيع»، المخصّص لشخصية القديس فرنسيس الأسيزي، واستمر في اكتساب الشعبية منذ ذلك الحين. وهو غزير الإنتاج، بنشر حوالي ستين عملاً. المختارات من كتاب Un assassin blanc comme neige (2011).
(2) من رموز المقاومة الفرنسية للاحتلال النازي.
(3) رسام ونحات ياباني عاش في القرن الثامن عشر.