«ستبقى فلسطين شوكة نابتة في حلق العالم، ولا أحد سيقوى على ابتلاعها»: لعلّ عبارة الكاتب الفلسطيني إلياس صنبر خير ردّ على الخطوة الوضيعة التي قام بها «سوق الشعر في باريس» والمتمثلة في إلغاء تكريم فلسطين في دورته الـ 42 المزمع عقدها السنة القادمة. «لم يعد من الممكن التفكير في هذا المشروع بسبب الوضع المأساوي الحالي»: هكذا سوّق المدير العام لـ «سوق الشعر» فنسان جيمينو-بونس لهذه الخطوة المنحازة بالكامل إلى إسرائيل، في رسالة وجهها للشاعر المغربي عبد اللطيف اللعبي الذي كان سبّاقاً في إصدار أنطولوجيا باللغة الفرنسية للشعر الفلسطيني (عام 2022 عن «دار سوي» العريقة) وبموجبها كانت دعوة اللعبي إلى التظاهرة الأدبية التي تُقام سنوياً في ساحة سان سولبيس منذ عام 1983، إلى جانب الشعراء الفلسطينيين المشاركين في الأنطولوجيا.
«جدار وكوفية» لعبد عابدي (79.5 × 89.5 سنتم. 2005)

في أواخر أيار (مايو) الحالي، يبعث بونس برسالة إلى اللعبي، ليشاركها الأخير مباشرة على حسابه الفايسبوكي. يزعم بونس أنه يخشى أن تتحول التظاهرة إلى «منصة سياسية (وليس شعرية)»، ثم لا يتأخر في الإعلان عن السبب الحقيقي للإلغاء، فيضيف: «لقد حاولنا في كانون الأول (ديسمبر) الماضي تنظيم لقاء بين الشعراء الإسرائيليين والفلسطينيين، لكن تبيّن أن ذلك مستحيل: يعارض الفلسطينيون أي لقاء، حتى تحت مظلة الشعر، مع نظرائهم الإسرائيليين. ومن المؤكد أن هذا الوضع لن يتغيّر عما قريب». إنها إذن دعوة وقحة للشعراء الفلسطينيين إلى التطبيع في وقت تمعن فيه آلة القتل الصهيونية في الفتك بلحمهم العاري وجثث أهلهم وأطفالهم. كما أن عدداً من الشعراء ممّن شاركوا في الأنطولوجيا قد صاروا هم أنفسهم شهداء، ليختتم بيت الشعر «حفلة التفاهة» بإلقاء تبعات الحرب وأهوالها على حادثة السابع من أكتوبر: «مَن يمكن أن يتخيل الرعب والمعاناة منذ السابع من أكتوبر؟». لم يتأخر اللعبي في الرد على الرسالة التي تذرّ الرماد في العيون، إذ نشر في اليوم التالي بياناً طويلاً يفنّد فيه مزاعم الدوائر العميقة المساندة لإسرائيل في «عاصمة الأنوار»: «قرأت بذهول رسالتكم التي تعيدون فيها النظر في قراركم استقبال الشعر الفلسطيني كضيف شرف في دورة عام 2025 من «سوق الشعر». وأرفق رسالتي، للعلم، بالرسالة التي كنتم أرسلتموها لي في 20 حزيران (يونيو) 2022 التي عبرتم فيها بطريقة لا لبس فيها عن رغبتكم في الترحيب بالشعراء الفلسطينيين. أعتقد أن الأسباب التي تذكرها لتبرير هذا الانقلاب لا يمكن احتمالها أخلاقياً. قراركم بعدم السماح للشعراء الفلسطينيين بالتعبير الحر في العام المقبل، سيثير الشك في إخلاصكم كمنظّمين لـ «سوق الشعر». الشعراء والشاعرات الفلسطينيون هم أكثر إنسانية منّا. أصواتهم ضرورية لنا جميعاً». الخطوة المستفزّة هذه ليست الأولى من نوعها التي تقوم بها الأوساط الفرنسية الداعمة للاحتلال، إذ سبق لرئيس بلدية باريس آن هيدالغو أن ألغت تظاهرة ثقافية دعت إليها منظمات يسارية ويهودية فرنسية مناهضة للسياسة الإسرائيلية في كانون الأول الماضي بمشاركة الناشطة والفيلسوفة الأميركية جوديث بتلر، إضافة إلى المناضلة الماركسية أنجيلا دافيس، كما دعت وزارة الثقافة الفرنسية و«المركز الوطني للكتاب» اللذان يمولان جزئياً «سوق الشعر» الكاتب سيلفان تيسون المنتمي إلى اليمين المتطرّف لرعاية النسخة الحالية من المهرجان. لا يزال رد فعل الأوساط الثقافية المؤيدة لحقوق الشعب الفلسطيني في فرنسا ضعيفاً رغم رسالة الاعتراض التي وقّعها عدد من الكتّاب والمثقفين الفرنسيين والفرنكوفون في صحيفة «ليبيراسيون» مطلع هذا الأسبوع. رسالة تشجب هذه السقطة الأخلاقية المروعة. لعلّ فرنسا اليوم بحاجة إلى مثقفين من قماشة جان جينيه وجيل دولوز لإنهاء حفلة التفاهة تلك. مثقفون حقيقيون يتراصون كتفاً بكتف مع الطلاب والأحرار المنتفضين في الجامعات والساحات الفرنسية لتظلّ فلسطين شوكة في حلق العالم.