تصاعدت حدّة التصريحات بين موسكو والغرب، منذ إعلان واشنطن السماح لأوكرانيا باستخدام أنواع محدّدة من الصواريخ الأميركية الصنع البعيدة المدى، ضدّ أهداف في الداخل الروسي، بدعوى تسهيل ضرب القوات الروسية المنطلقة في اتجاه مقاطعة خاركيف المحاذية للحدود بين البلدين، قبل أن تحذو عواصم غربية أخرى، وفي طليعتها برلين، حذو حليفتها. ومنذ ذلك الوقت، ارتفعت نبرة المواقف الروسية تجاه الغرب، ومن تجلّياتها التعبير غير المسبوق الذي استخدمه الناطق باسم الرئاسة الروسية، ديمتري بيسكوف، للدلالة على الولايات المتحدة، بوصفها «جهة معادية»، مروراً بإشارات تنبيه بعث بها نائب وزير الخارجية الروسي، سيرغي ريابكوف، إلى واشنطن، حين حذّرها من مغبة القيام بـ«حسابات خاطئة (تجاه موسكو) قد تكون لها عواقب وخيمة»، وصولاً إلى حديث الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، عن إمكانية قيام بلاده بتزويد بلدان وجهات معادية للغرب بأسلحة روسية متقدّمة.
الإعلام الروسي: منصة رسائل استباقية
قبل تصريحات بوتين، انبرت وسائل الإعلام الرسمية الروسية، والمعلّقون المحسوبون على الكرملين، إلى بثّ دعاية سياسية مضادة للغرب، بمضامين متطابقة مع ما جاء على لسان الرئيس، إذ نشرت القناة الروسية الأولى خريطة تضمّ «المناطق التي بات يمكن أوكرانيا أن تطاولها (في العمق الروسي) باستخدام الأسلحة الغربية»، ومنها بيلغورود، وكورسك، وبريانسك، وسمولينسك، وغيرها، مذكّرة بامتلاك حكومة زيلينسكي صواريخ «ATACMS» ومنظومة «HIMARS» وقنابل «GSLDB» الأميركية الصنع، فضلاً عن أنظمة تسليحية غربية أخرى بعيدة المدى كصواريخ «ستورم شادو» البريطانية. ومن جهته، حذّر الإعلامي الروسي، المعروف بقربه من دوائر صنع القرار، فلاديمير سولوفيوف، من أن «نُذر الحرب العالمية الثالثة تلوح في الأفق»، داعياً بلاده إلى شنّ ضربات على أهداف عسكرية في دول «الناتو». وطالب، في الوقت نفسه، بـ«دعم كل المنظمات غير الدولتية (المناهضة لواشنطن) في شتى بقاع الأرض، وتزويدها بكلّ ما تحتاج إليه».
كثّفت القوات الأوكرانية من ضرباتها عبر الطيران المُسيّر للبنية التحتية «الطاقوية» الروسية


إزاء ذلك، رأى الخبير العسكري الروسي، يوري فيدوروف، أن التصريحات الأخيرة لبوتين تندرج في إطار «محاولة موسكو تحذير الغرب من أن التغييرات التي ينتهجها في ملف تسليح أوكرانيا، ستؤدي إلى تصعيد في الصراع». وأوضح فيدوروف أن التلويح بضرب المصالح الغربية قد يشمل «استخدام كل الأدوات المتاحة، باستثناء الأسلحة النووية». من جهتها، أشارت صحيفة «نيويورك تايمز» إلى أن «الوجهة التي قال بوتين إنه بصدد نشر أسلحة روسية فيها غير واضحة»، وأن هناك احتمالات لأن تكون وجهته أوروبية، على غرار بيلاروسيا، التي سبق أن نشر فيها قوات وأسلحة نووية، أو في جيب كالينينغراد التابع لروسيا على بحر البلطيق، المحاذي لقواعد عسكرية لـ«الناتو»، أو حتى في سوريا، حيث تنشر الولايات المتحدة قواعد عسكرية تابعة لها.

حملة استفزاز غربية متواصلة ضدّ موسكو
وبحسب محلّلين، فقد حمل التحذير الأخير لبوتين، والذي أعقبه تلميح إلى وجود مخاطر جدّية باندلاع «صراع خطير في أوروبا، وتمدّده نحو صراع عالمي»، في حال تمادى الحلف العسكري الغربي في اتّخاذ إجراءات معادية لبلاده على الأرض الأوكرانية، إشارات غير مباشرة إلى كل من الولايات المتحدة، وألمانيا. ففي حين قامت الأولى بإجراء مناورات على إطلاق صواريخ نووية عابرة للقارات أخيراً، فُهمت على أنها «رسالة ردع نووي مضادّة» في وجه موسكو، بعدما كانت الأخيرة قد انسحبت من «معاهدة الحظر الشامل للتجارب النووية» في تشرين الثاني الفائت؛ أشاعت الثانية تسريبات صحافية عن استعدادات تجريها تحسُّباً لاندلاع مواجهة مع روسيا. وفي السياق نفسه، جاء كشْف صحيفة «تلغراف» البريطانية عن خطّة أعدّها «الأطلسي» في إطار تكثيفه الاستعدادات لمواجهة واسعة مع روسيا، ترمي إلى إنشاء طرق إمداد عسكري لوجستي برية تنطلق من موانئ أوروبية عدة، كروتردام الهولندي، بغرض تسريع نقل القوات والإمدادات العسكرية الأميركية انطلاقاً من تلك الموانئ، نحو نقاط برية أخرى على الخطوط الأمامية «المفترضة» للجناح الشرقي للحلف، على مقربة من الحدود الروسية، ومن بينها نقاط لوجستية داخل الدول الأسكندنافية.
وعلى خلفية ذلك، خلصت دراسة جديدة لـ«معهد دراسات الحرب»، إلى أن روسيا «تستعد لصراع تقليدي واسع النطاق مع الناتو»، مرجّحة أن يندلع في موعد أقرب ممّا يتوقّعه الغرب. ويرى المحلّل في «مركز لاهاي للدراسات الاستراتيجية» والخبير الاستراتيجي السابق لدى حلف «الناتو»، ديفيس إليسون، من جهته، أن «الخطط الأطلسية الجديدة ليست مفاجئة، ولا سيما أنها تتوافق مع التحذيرات الأخيرة الآتية من كبار القيادات في الحلف»، فيما يعتبر الباحث في «مركز تحليل السياسات الأوروبية»، جان كالبيرغ، أن «تلك الخطط تهدف في جانب منها، إلى إرسال إشارة إلى روسيا بأن الحلف جادّ في استعداداته لحرب أوسع نطاقاً معها».
وضمن سياق التصعيد نفسه، استمرّت المشاغلة الغربية لموسكو على الميدان الأوكراني. فمنذ مطلع العام الجاري، وبدافع تعويض إخفاقها في تحقيق تقدم ميداني ملموس، كثّفت القوات الأوكرانية من ضرباتها عبر الطيران المُسيّر للبنية التحتية «الطاقوية» الروسية، وذلك كجزء من استراتيجيتها لإلحاق الأذى بقطاع الطاقة الروسي، الذي تُعدّ عائداته الرافد الأكبر لموازنة البلاد. وفي أواخر الشهر الماضي، شنّت كييف هجوماً على إحدى المنشآت النفطية في مقاطعتَي روستوف وبيلغورود الروسيتَين، هو الثالث من نوعه لهذا العام، بعد آخرَين مشابهين، في آذار ونيسان الماضيَين. وبحسب مصادر استخبارية غربية، فقد نُفذ ما لا يقلّ عن 13 هجوماً أوكرانيّاً على مصافي النفط الروسية منذ بدء الحرب، ما أفضى إلى تراجع قدرتها بنسبة وصلت إلى 14%.
ومع عودة الاهتمام الغربي بكييف، عقب الإفراج عن المزيد من المساعدات العسكرية الأميركية والأوروبية لها، بعد أشهر من الفتور على خلفية تفجّر الحرب في غزة، عمدت حكومة فولوديمير زيلينسكي، بدءاً من شهر نيسان الماضي، إلى توسيع «بنك الأهداف الروسية»، ليشمل شبكة رادارات الإنذار المبكر، العائدة إلى روسيا، بخاصة تلك التي تلعب دوراً كبيراً في توجيه الصواريخ الباليستية النووية، حيث وصل عدد الاستهدافات، خلال شهرين فقط، إلى ثلاثة. وفي الـ22 من الشهر الماضي، قامت مُسيّرة أوكرانية بالإغارة على منظومة رادارية من طراز «Voromizh-M» طويلة المدى داخل أحد المواقع العسكرية في منطقة كراسنودار الجنوبية، قبل أن تعقب ذلك غارة أخرى في الـ26 من الشهر نفسه، هي الأعمق منذ بدء الحرب، ضد منظومة مشابهة في قاعدة عسكرية داخل مدينة أورسك، الواقعة في مقاطعة أورينبورغ، على مقربة من الحدود مع كازاخستان، والتي تبعد أكثر من ألف كيلومتر من أقرب نقطة للقوات الأوكرانية. وعلى الجبهة البحرية، دفع التصعيد الأوكراني، المدعوم غربياً، ضدّ القطع والسفن الروسية في البحر الأسود، إلى نقل عدد كبير من تلك القطع إلى ميناء نوفوروسيسك الروسي، حيث تم نشر تعزيزات عسكرية إضافية، من قبيل منظومات دفاع جوي، وغواصات مزوّدة بأنظمة حرب إلكترونية للتشويش على المُسيّرات الأوكرانية، في موازاة توجّه موسكو إلى تدشين قاعدة بحرية جديدة لها على موانئ أبخازيا، لإبعادها عن مدى الأسلحة المتوفرة بحوزة كييف.