بعد قرابة عام ونصف عام على المراجعة التي تقدمت بها جمعية «التجمع للحفاظ على التراث اللبناني»، اصدرت الغرفة الاولى في مجلس شورى الدولة برئاسة القاضي شكري صادر قراراً نهائياً ردت فيه جميع الطعون التي تقدمت بها المستدعية ضد قرار وزير الثقافة غابي ليون الذي وافق فيه على طلب شركة «بيروت ترايد» مالكة العقار ١٣٧٠ في وادي ابو جميل على دمج كامل الجزء الجنوبي من ميدان سباق الخيل الروماني وعلى تفكيك واعادة تركيب اجزاء الشوكة الوسطية من الميدان والاجزاء الشمالية منه ضمن البناء.
وتنوي شركة «بيروت ترايد» بناء ابراج سكنية في العقار المذكور الذي يحتوي على اجزاء اساسية من ميدان سباق الخيل الروماني الذي يصنف بأنه الأضخم، وترتفع مدرّجاته لعدة أمتار، وتمتد حلبة السباق فيه إلى أكثر من 90 متراً، ولا يزال يتوسطها الحائط الفاصل الذي كان يدور من حوله المتبارون.
ولقد خاضت الجمعية صراعاً اعلامياً وقانونياً امتد لسنوات شارك فيه الوزراء السابقون للثقافة وبينهم رئيس الحكومة المكلف تمام سلام، الذين سبق أن اصدروا قرارات توجب الحفاظ على الاثارات المكتشفة في العقار في مكانها. واكتسبت القضية بعداً سياسياً بعد دخول الرئيس سعد الحريري على الخط كون «قصره» يقع بالقرب من العقار المملوك من رجل الاعمال الشيعي ناظم علي احمد. كما ان الوزير مروان خير الدين يمتلك مع عائلته عقارات مجاورة تشكل امتداداً طبيعاً لميدان سباق الخيل الروماني، ولقد اصدر الوزير ليون قرارات اخرى تسمح لخير الدين بتفكيك ودمج الاثار في العقارات المذكورة، وجميع هذه القرارات بدورها هي موضوع طعن امام مجلس شورى الدولة.
وتطالب الجمعية بضرورة استملاك جميع العقارات التي تحوي على سباق الخيل الروماني وتحويل المنطقة الى موقع اثري، كما تقدمت الجمعية بدراسة لعرض الاجزاء المطمورة من الميدان الروماني ضمن تقنية ثلاثية الابعاد. لكن هذا الاقتراح لم يلق أذناً صاغية من قبل وزارة الثقافة التي اعلنت عن نيتها استملاك عقارات اخرى في وسط بيروت، كانت قد باعتها شركة سوليدير الى المالكين الحاليين، رغم علمهم المسبق بوجود اثارات مطمورة فيها. وعلى غرار جميع العقارات التي بنيت في وسط بيروت، يعول المالكون على دفع مبالغ طائلة لشركات خاصة تتولى اعمال الحفر بالتنسيق مع مديرية الاثار، على ان يتم تسليم العقار بعد جرف جميع المكتشفات الاثرية او تفكيكها ونقلها الى مستودعات الوزارة. وفي حالات نادرة يجري اعادة توزيع بعض المقتنيات الاثرية المكتشفة في الابنية الجديدة، ورغم إلحاح وزارة الثقافة على ان مراسيم اعارة الاثار وعرضها في الابنية الحديثة تكفل ان تكون ضمن متاحف عامة ومفتوحة للجمهور، إلا انه لم يتم اثبات ان اياً من هذه الادعاءات قد تم تطبيقها فعلياً، حيث تبقى هذه المكتشفات معروضة كديكور في مداخل الابنية الحديثة التي لا يسمح بدخولها الا بإذن من المالك.
ويتبين من حيثيات قرار شورى الدولة مدى هشاشة الوضع القانوني الذي وصلت اليه المديرية العامة للاثار التي باتت منعدمة الوجود من الناحية القانونية والتقنية بسبب شغور منصب المدير العام وعدم وجود اي موظف اصيل في الفئة الثانية في المديرية، الامر الذي احكم قبضة وزير الثقافة على عملها. ولقد جاء قرار شورى الدولة ليكرس هذه القبضة بالاستناد الى المادة ٦٦ من الدستور التي تنص على ان «يتولى الوزراء ادارة مصالح الدولة». وكانت الجمعية قد طعنت بقرار الوزير كونه صادراً عن مرجع غير صالح لأن المادتين ٢٣ و ٢٤ من قانون الاثار خولتا دائرة الاثار القديمة اخذ القرارات بشأن العقارات المدرجة على لائحة الجرد العام وليس الوزير. وبما انه عندما يعين القانون صلاحية خاصة لسلطة ادارية معينة، كالمديرية العامة للآثار، فانه لا يمكن من حيث المبدأ لرئيسها التسلسلي، اي وزير الثقافة، ان يمارس هذه الصلاحية.
لكن الجهة المستدعية تذرعت بشغور جميع المناصب في الفئتين الاولى والثانية في المديرية العامة للاثار. وتبين من حيثيات قرار شورى الدولة ان الجهة المستدعية لم تثبت «ان الشغور، والاستحالة الناجمة عنه، مردهما الى فعل او تقصير الوزير نفسه باعتباره السلطة الصالحة لاقتراح التعيين». لذلك استوجب رد السبب الاول للطعن.
كذلك رد مجلس شورى الدولة الاسباب الاخرى التي تقدمت بها المستدعية للطعن بالقرار وبينها عدم مراعاته للمعاملات الجوهرية المفروضة قانوناً، ومخالفة القرارات الوزارية السابقة ومخالفة احكام المعاهدات الدولية وبسبب انحراف السلطة.
ويتبين من ملف المراجعة أن القرار المطعون فيه صدر بناء على رأي اللجنة المشكلة وفقاً لاحكام المادة الخامسة من قانون الممتلكات الثقافية والتي اطلعت، كما تدلي المستدعى ضدها، على كامل الملف التابع للمكتشفات الاثرية وعلى آراء ومقترحات الاثريين المتعاقدين في المديرية العامة للآثار. ومن المعلوم ان اللجنة المذكورة التي عينها الوزير ليون قد وافقت على تدمير الميناء الفينيقي المكتشف في منطقة ميناء الحصن، وهو اجراء نال نصيبه الوافر من النقد العلمي من قبل الخبراء الاثريين لبنانياً ودولياً، اما الاثاريون المتعاقدون مع الوزارة وابرزهم اسعد سيف، فيتبين ان اقوالهم متناقضة في ما يتعلق بميدان سباق الخيل، اذ سبق لسيف أن اوصى بحفظه في مكانه ولكن تراجع عن توصيته بعد ان تسلم الوزير ليون مهامه. غير أن مجلس شورى الدولة لم ينظر في هذه الملاحظات واكتفى باعتبار ان القرار راعى المعاملات الجوهرية!
اما عن مخالفة قرار ليون لقرارات الوزراء السابقين، فيؤكد قرار شورى الدولة «ان القيد في لائحة الجرد بموجب قرار وزاري وفقاً لنص المادة 22 من قانون الاثار، لا ينتج عنه نزع ملكية مالك العقار، انما اشتراط اعلام المديرية العامة للآثار عن الرغبة باجراء اشغال على العقار». ويستنتج من ذلك انه كان يفترض باحد الوزراء السابقين تمام سلام، سليم وردة، وطارق متري، ان يطلب من مجلس الوزراء الموافقة على استملاك العقار المذكور لحفظه.
وبشأن ادعاء المستدعية بمخالفة قرار ليون لأحكام المعاهدات الدولية، لا سيما ميثاق البندقية العالمي واتفاقية الأونيسكو، فتبين لشورى الدولة «أنه وفقاً للمعايير الدولية فإن صون الممتلكات الثقافية الأثرية هو واجب إلا أنه ينبغي أن يؤخذ بعين الاعتبار ما لها من أهمية نسبية عند تقرير التدابير الكفيلة بالحماية بحيث إنه لا يستبعد نقل كل أو بعض هذه الممتلكات، وإعادة بنائها في موقع أو إطار مماثل لموقعها الأصلي يتعرض لها معه الإطار الطبيعي الذي كان يحيط بها من قبل.
ويتابع قرار الشورى «في ظل وجود ما يزيد على 89% من مساحة هذا الميدان تحت الأبنية القائمة، فإن الميزة الأساسية المعبّر عنها وفق ما تقدم والمتمثلة بميدان السباق الفعلي حيث يتبارى المتنافسون وأحصنتهم، تكون منتفية بصورة فعلية. وبما أن القرار المطعون فيه ليس من شأنه بحد ذاته إفقاد ما تبقى من ميدان سباق الخيل الروماني لمغزاه التاريخي، لذلك قرر مجلس شورى الدولة بالاجماع وباسم الشعب اللبناني «رد المراجعة في الاساس ... وتضمين المستدعية كافة الرسوم والمصاريف».

* للإطلاع على قرار مجلس شورى الدولة أنقر هنا


يمكنكم متابعة بسام القنطار عبر تويتر | @balkantar