أجبر العدوان الإسرائيلي على جنوب لبنان مؤسسة «عامل الدولية» على نقل نادي المسنّين التابع لها من الخيام إلى مدينة النبطية. تتبّع الفريق المعنيّ خطى كبار السن الذين كان يهتم بهم صحياً ونفسياً وترفيهياً، ورصد الأماكن التي نزحوا إليها، مضاعفاً برامج الدعم الصحي والنفسي والاجتماعي «بعدما تسبّب نزوحهم في أزمات صحية ونفسية جرّاء ابتعادهم عن بيوتهم وجيرانهم وتفاصيلهم اليومية الصغيرة» بحسب ريان حمزة المنسّقة الميدانية لمشروع كبار السن في منطقة النبطية في «عامل». رافقنا فريق «عامل» في جولة زيارات ميدانية على عدد من المسنّين النازحين إلى منطقة النبطية. هناك في منزل متواضع في الكفور، تقاسمت نجاح عياش وزوجها حسين عواضة جنبات الغرفة الصغيرة منذ موافقتهما على مغادرة منزلهما في الخيام قبل نحو ثلاثة أشهر. على سرير طبي، ترقد أم نبيل بعد سقوطها أرضاً على إثر أزمة صحية أصابتها عند تفقّدها منزلها قبل نحو شهر. حزنت على الأضرار التي لحقت به جرّاء القصف وعلى «حاكورتها» اليابسة وقد غطاها العشب. وهي في الأساس تعاني منذ عامين من السرطان. تتلقّى عياش العلاج الجسدي، لكنها توقن بأن دواءها الشافي هو بعودتها إلى دارها. بحسرة، تستذكر شجر الحامض و«الإكي دنيا» والورد والخضر التي زرعتها بيديها. على كنبة مقابلة، استسلم أبو نبيل لآلة تخطيط القلب التي يجريها له الممرض. يهمس بـ«آخ» متكسرة بين الحين والآخر. لا يستطيع الزوجان إحصاء عدد «التهجير» الذي عايشوه في حياتهم بسبب إسرائيل. «المرّة الأولى تهجّرنا عام 1973 ثم تهجّرنا إثر مجزرة الخيام عام 1978. وبسبب الحرب الأهلية تهجّرنا كثيراً وتنقلنا بين البقاع الغربي وصيدا وبيروت والكويت والعراق والآن في النبطية». لدى تحرير الجنوب عام 2000، استقرت العائلة في الخيام. افتتح أبو نبيل ورشة خياطة في الساحة وبقي فيها حتى عام 2018 عندما تعرض لأزمة صحية. كانت سنواته الأخيرة «سعيدة رغم المرض. نمضي آخر أيامنا أنا ورفاقي بين الساحة والسهل ونبع الدردارة».في تول، سكنت عائلة شيت بعد نزوحها من كفركلا. وهي لا تعلم كم ستطول إقامتها هنا حتى بعد انتهاء العدوان. فالعدو الإسرائيلي أغار على منزلهم بعد استشهاد ابنهم محمد شيت مطلع الشهر الحالي في غارة على جديدة مرجعيون. عند المدخل وفي كل غرفة، ترتفع صور الشهيد محمد وشهداء آل شيت الذين قضوا في العدوان الأخير. تحت صورة ابنها الضخمة، تختار نجيبة حمود ارتشاف القهوة كل صباح. تحاول التعويض عن فقدان مقوّمات «الصبحية» أمام مصطبة دارها. «محمد راح وزريعاتي راحوا». تنتفض حمود عندما نسألها عن قصتها مع التهجير. «نحن الأقرب جغرافياً إلى الصهاينة. نعرف غدرهم منذ عقود. منذ نهاية الستينيات، كانت كفركلا تتعرض للقصف بسبب مشاركتها في المقاومة الفلسطينية. كنا نغادر منازلنا في الليل وننام في دير ميماس والقليعة ثم نعود في الصباح، خوفاً من تسلّل العدو والقصف». زوجها داوود شيت، أصيب في مواجهة كفركلا عام 1975 عندما كان في العشرين. لا يزال يحتفظ بقصاصات الجرائد التي وثّقت صور تصدّي الأهالي لجنود العدو عند بوابة فاطمة. كان فدائياً في الحرس الشعبي وتصدّى حينها مع مجموعات المقاومة لـ «كوماندوس» حاول اقتحام كفركلا. يفاخر بأنه ورفاقه قتلوا تسعة جنود بينهم ضابط وجرحوا 18 آخرين. قبلها بعامين، تسلّل مع مجموعة إلى مستعمرة المطلة وشارك في أسر جندي كان يرابض في دشمة، سلّمه إلى المقاومة الفلسطينية وتمت مبادلته مع أسرى. لم تستغرب العائلة بأنّ حساب إسرائيل مع أهل كفركلا لم ينته حتى قدمت ابنها بعد 24 عاماً على اندحار إسرائيل من بوابة فاطمة. «هذا قدرنا كجنوبيين. لن نقضيَ شيخوختنا في النوادي والسياحة طالما أن هذا العدو جاثم على حدودنا» قال داوود شيت.
على قارعة الطريق بين تول والكفور، افتتح محمد صولي بسطة لبيع الخضر قبل نحو شهرين. طال نزوحه من بلدته الطيبة وصار بحاجة إلى مورد رزق. لم يكن باستطاعته العمل في مجاله في البناء ولم يخجل من افتتاح بسطة «أهون عليّ من انتظار المساعدات». مثله مثل أهالي الريف، يجد صولي صعوبة في تقبّل العيش في المدن والشقق التي تفتقد إلى المساحات الواسعة والحدائق والخصوصية. «في الضيعة، كل شيء مبارك. نأكل ممّا نزرع ونتدبّر معيشتنا بمقوّمات بسيطة». يمنّي نفسه بأمل العودة القريبة. «رح فك البسطة وارجع عند انتهاء الحرب».