بعدما عاشت مجدها في الثمانينات والتسعينات من القرن الماضي، أصبحت أفلام «الشرطيّون الأصدقاء» نوعاً على وشك الانقراض. وكانت معادلة «الشرطي الجدّي والشرطي المضحك» قد أضفت الكثير من الإثارة على مشاهد إطلاق النار والمطاردة، واكتسحت شباك التذاكر. تدور هذه الأفلام عادةً حول شرطيين ذوي شخصيات متباينة، ويؤدي هذا التناقض إلى صراعات فكاهية ومسلية ضمن إطار فيلم أكشن. تتطوّر هذه الشراكة عادةً إلى صداقة شخصية وعائلية على مدار الفيلم. في تلك الحقبة، ظهرت أفلام حققت نجاحات كبيرة، وتحوّلت إلى سلاسل مثل «السلاح الفتّاك» (Lethal Weapon)، و«شرطي بيفرلي هيلز» (Beverly Hills Cop)، وطبعاً «فتيان أشقياء» (Bad Boys). ومع بداية الألفية الجديدة، ظهر عدد جديد من هذه الأفلام، لكنها لم تكن ناجحة كثيراً. لذلك قرّرت هوليوود أن تعيد الصيغة الفعّالة القديمة وإعادة إحياء كاريزما نجومها الكلاسيكيين، فأعادت بعض هذه الأعمال إلى الواجهة. مع بداية الصيف الحالي، سوف نشاهد إيدي مورفي من جديد بدور المحقق أكسل فولي في فيلم «شرطي بيفرلي هيلز 4»، وأيضاً، هناك حديث عن عرض فيلم «السلاح الفتّاك» بنسخة جديدة، مع ميل غيبسون وداني غلوفر، لكن من دون المخرج ريتشارد دونر (1930 – 2021)، الذي أخرج الأجزاء الأربعة في الثمانينات والتسعينات.

في حالة «فتيان أشقياء»، الأمر مختلف قليلاً. حتى عام 1995، كان المخرج مايكل باي مجهولاً تماماً. مسيرته كمخرج أكشن انطلقت مع أول فيلم «فتيان أشقياء» الذي أسّس أيضاً ويل سميث ومارتن لورانس في هذا النوع. في عام 2003، عاد باي وأخرج «فتيان أشقياء 2»، وتوقف كل شيء هنا، رغم النجاح الكبير الذي حقّقه الفيلمان. لم يتميّز العملان بطريقة تصوير الحياة البوليسية النابضة بالإثارة، ولا بقصصها المتماسكة أو شخصياتهما المعقدة، بل إنّ عامل الجذب الرئيسي كان الثنائي سميث ولورانس. سبعة عشر عاماً مرت، ولم يتجرأ أحد على إعادة إحياء الفيلم، حتى قدوم المخرجين البلجيكيين من أصول مغربية عادل وبلال (عادل العربي وبلال فلاح). في عام 2020، تولّى المخرجان «فتيان أشقياء 3» (Bad Boys For life)، ليظهرا أن الكيمياء بين سميث ولورانس لم تكن من قبيل المصادفة، وجاء أسلوب المخرجين في منتصف الطريق بين تكريم أفلام باي، والجمالية الأكثر حداثة في معالجة الشخصيات والهوية البصرية الأكثر تقدماً بسبب التكنولوجيا.
حدث الكثير منذ طرح «فتيان أشقياء 3»، قبل أربع سنوات. أصيبت هوليوود بالشلل بسبب إضراب الكتّاب، وتعرضت مسيرة ويل سميث المهنية لضربة بعدما صفع زميله كريس روك أمام الملايين في احتفال جوائز الأوسكار عام 2022. وتعرض الثنائي البلجيكي لإحدى أسوأ الانتكاسات التي يمكن تخيّلها في عالم السينما، فقد ألغى استديو «وارنر براذرز» فيلمهما «باتغيرل» الذي بلغت كلفته 90 مليون دولار. لكنهما تمكّنا من إخراج «متمرد» (Rebel)، أحد أهم وأجمل الأفلام العربية عن مدة «داعش» في الرقة في سوريا. قبل أيام، عاد عادل وبلال، مع سميث ولورانس، في الجزء الرابع من هذه السلسلة Bad Boys: Ride or Die. عاد سميث، طازجاً ببنية جسدية يُحسد عليها. سيتعرض لعدد من الصفعات في الفيلم من قبل صديقه لورانس، كما يعود مايكل باي لثوان (ليس بالروعة نفسها التي ظهر فيها لدقائق في الفيلم الثالث). عندما ظن الجميع أفول نجوميته، أظهر سميث أنه لا يزال في أفضل حالاته وهو في الخامسة والخمسين، ولا يزال يسيطر بقوة على هوليوود، وبأنّه ملك شباك التذاكر، ولا يمكن الاستغناء عنه.
لا يزال «فتيان أشقياء» يستحضر هوليوود المليئة بالانفجارات والأحداث، ولا تزال ميامي مركز الحركة. في الفيلم السابق من السلسلة، كان الشرطيان «السيئان»، يفكران باستمرار في التقاعد، لكنّهما لا يذكران حتى هذا الأمر في «فتيان أشقياء 4» الذي يعتمد على التستوستيرون بشكل أقل من أفلام التسعينات، ولكنه أكثر جنوناً في بعض الأحيان. حسّن بلال وعادل طريقة تقديمهما فيلماً يعتمد على اللحظات الفكاهية للشرطيين، ولحظات الأكشن التي تقطع الأنفاس، كما نجحا في تقديم فيلم تسعيني وضمّه لروح هذا العصر وثقافته الشعبية، بإعطاء شخصيات جديدة لحظات صغيرة مثل دي دجاي خالد (ظهر في الفيلم الثالث)، وخابي لام أحد مشاهير السوشال ميديا. «باد بويز 4» فيلم تجاري بدأت نجاحاته بالظهور في شباك التذاكر، وهو لا يخترع أي جديد، ولكنّه منتج ترفيهي صيفي فعال.
يبدأ «فتيان أشقياء 4» بضجة كبيرة: سيارة بورش مسرعة جداً، والسائق طبعاً هو مايك لاوري (ويل سميث)، وبجانبه زميله ماركوس بورنت (مارتن لورانس). ضابطا شرطة ميامي اللذان نعرفهما منذ سنوات طويلة، يصلان متأخرين على موعد مهم هو زفاف مايك نفسه! الفرحة لن تدوم طويلاً، إذ يتعرّض ماركوس لأزمة قلبية، ولكنه ينجو منها، ويظل طوال الفيلم يؤكد أنه لا يمكن أن يموت، لأن وقته لم يحن بعد. بدوره، إنّ مايك الذي اضطر إلى القتال ضد ابنه أرماندو (جاكوب سكيبيو) في الجزء السابق، يطلب مساعدته وهو في السجن، فزميلهما وصديقهما الكابتن هاورد (جو بانتوليانو) متهم بالفساد بعد وفاته في الجزء الثالث. بالنسبة إلى مايك وماركوس، الأمر واضح، فالكابتن هاورد بريء، وهما مستعدّان لتعقب الجاني الحقيقي، ولكنّ خصمهما أكثر مكراً مما كانا يعتقدان، فيصبحان المتهمين أيضاً، ويتعرّضان لمطاردة الشرطة. هذه هي القصة باختصار، لكنّ ذلك لا يهم، فنحن لم نذهب لمشاهدة الفيلم لحكّ رؤوسنا، بل للاستمتاع بهذه الشراهة الحركية، ومشاهدة فكاهة ماركوس، ورؤية مايك وهو يسحب سلاحه بسرعة ليقتل كل من يعترض طريقه. آسف، كريس روك، لكن انتقامك لم يحن وقته بعد!
لنكن واضحين منذ البداية: «فتيان أشقياء 4» هو الأضعف بين الأفلام السابقة. لم يكن هناك توازن فعلي بين القصة والتقلبات ومشاهد الحركة والفكاهة. اللافت أنّ كل شيء يحدث، كما هو متوقع، سواء في وصول التعزيزات أو الذروة الدرامية أو القرارات المهمة. هناك الكثير من التناقضات ولا أفكار جديدة، بل إعادة تدوير. لقد حاول المخرجان تحسين شخصيتَي بطلينا وتعزيزهما ببعض الميزات الجديدة. لكن مشكلة أفلام الأكشن الكوميدية أنه يصعب قياس درجة مشاهد الحركة والكوميديا إذ لا يتغلب أحدهما على الآخر. في فيلمنا، للأسف، الجزء الكوميدي يفوق بكثير الأكشن. بالطبع، هذا لا يعني أننا لا نحصل على الكثير من الأدرينالين، لكن يبدو أنهم يحاولون ملء معظم الفيلم بالكثير من حوار الأخذ والعطاء. تحاول هذه الحوارات بشكل محرج تقريباً أن تكون مضحكة. كان هناك واحد أو اثنان أثارا بعض الضحك في قاعة السينما، هذا هو أقصى ما استطاعه كتّاب السيناريو.
يستحضر الجزء الجديد من Bad Boys هوليوود المليئة بالانفجارات والأحداث


لحسن الحظ، صُوِّرت مشاهد الحركة بشكل ممتاز. هناك أكثر من مشهد سوف يشعرك بأنك جالس أمام لعبة كومبيوتر، وأنت من يتحكم في المسدس. تم تخطيط الانفجارات والمطاردات والمعارك وتنفيذها بعناية، ما يساعد المشاهد على الشعور بأنه جزء من الحدث تقريباً. كما كان متوقعاً أيضاً، تشتمل اللقطات على مشاهد لمروحيّات وانفجارات ومطاردات وإطلاق نار مصممة لتحقيق أقصى قدر من الجنون. تجنّب عادل العربي وبلال فلاح، المؤثرات الرقمية بشكل شبه كامل وقاما بالتصوير اليدوي خارج الاستديو. دمج الاثنان أيضاً بعض الحيل البصرية وبالتالي قدّما دوافع إبداعية، بعضها مثير للإعجاب حقاً. كما يعرف المخرجان كيفية نشر الفكاهة في أخطر المواقف في سينما الأكشن. رغم كل عيوبه، يعمل «فتيان أشقياء 4» بشكل جيد في بعض أجزائه. رغم أنّ المشهد الافتتاحي هو فردي، كما حدث في افتتاحية الجزء الثالث، إلا أن الفيلم يحتوي على بعض مشاهد الحركة المبتكرة والمصممة جيداً، مثل مشهد مارين ريغي (دينيس غرين، الذي تعرفنا إليه في الجزء الثاني، عندما جاء لأخذ ابنة ماركوس إلى موعدها الغرامي الأول)، الذي سيحبّه كل من يحب السلسلة.
المؤكد أن فيلم ««فتيان أشقياء 4» ليس فيلم الحركة لهذا العام، ولكنه سيحقق نجاحاً كبيراً على شباك التذاكر. الثنائي ويل سميث ومارتن لورانس ما زالا يعملان بشكل رائع في المحاولة الرابعة، ويقدمان ترفيهاً جيداً. بميزانية تبلغ حوالى 90 مليون دولار، إن فرص الربح كبيرة، وإذا أمكن الحفاظ على المستوى السابق للأفلام، فليس هناك ما يمنع وجود المزيد من الأصدقاء «الأشقياء» في ميامي.

* Bad Boys: Ride or Die في الصالات