بعدما رسم المخرج الإيراني الدنماركي علي عباسي صورة شفّافة للرجولة في المجتمعات الثيوقراطية في فيلمه «العنكبوت المقدس» (2022)، يطلق في فيلمه الجديد «المتدرب» الذي عُرض في المسابقة الرسمية لـ «مهرجان كان السينمائي» الأخير، أشعته السينية نحو النيوليبرالية، المتمثلة في دونالد ترامب وروي كوهين. تتحوّل شاشة عباسي إلى حوض سمك كبير مليء بأسماك القرش الجائعة التي تعقد صفقات تجارية وتقدم خدمات شخصية، تبتز وتلتهم بعضها. إنها الفردية الصارخة، وهي السوق يا صديقي، فكل شيء مضيعة للوقت أمام المصالح الاقتصادية لتلك النخب التي تدّعي اهتمامها بالعالم، في حين لا شيء يبقيها مستيقظةً في الليل، إلا البحث عن طرق جديدة لدفع ضرائب أقل وخفض رواتب عمّالها.
من فيلم «المتدرب» (2024)

يعود هذا الفيلم إلى الواجهة مع إدانة هيئة المحلفين في نيويورك أخيراً الرئيس السابق دونالد ترامب بالتهم الـ34 الموجهة إليه في قضية دفع أموال بما يخالف القانون. يستلهم الشريط اسمه من البرنامج التلفزيوني الشهير «ذا أبرانتيس»، الذي قدمه دونالد ترامب بهدف مساعدة الشباب كي يصبحوا رجال أعمال مختلفين. يعتمد عباسي على أشكال سينما هوليوود الجديدة، ليصوّر صعود دونالد ترامب، والتأكيد بأنّ عبارته الشهيرة «اجعل أميركا عظيمة مرة أخرى»، تعني في الواقع «اجعل ثروتي أعظم». في فيلمه المقتبس عن نص كتبه الصحافي غابريال شيرمان، يُظهر عباسي الجوانب والخصائص المختلفة لشخصية بطل فيلمه المتغطرس والمتقلب والمتنكر والمتلاعب والعنصري والمبتذل. سرد عباسي بدايات ترامب التجارية، واتفاقياته مع مجموعات المافيا في نيويورك، ومسيرته المهنية القاسية والكاذبة، وازدرائه لأي نوع من القيم بخلاف قيم الأرباح والمال، وجانبه المسيحاني، وأنانيته، وازدرائه للنساء، وخيانته لأصدقائه، ونبذه لأخيه، حتى عمليات التجميل الذي أجراها للتخلّص من الدهون، وزرع الشعر، والأدوية الذي يتناولها بانتظام. كل هذا من دون دحض قصة الرجل العصامي، الذي بدأ من لا شيء تقريباً، وأصبح أحد أهم رجال الأعمال بفضل ذكائه وجشعه وطموحه.
بدأ كل شيء في مطعم أنيق في عام 1973: يراقب دونالد ترامب (سباستيان ستان في أداء مبهر)، البالغ 27 عاماً، روي كوهين (جيريمي سترونغ)، مع بعض أصدقائه من رجال العصابات، وأعضاء النقابات والقضاة. كوهين المحامي الذي قاد عائلة روزنبيرغ إلى الكرسي الكهربائي، وكان متواطئاً مع جوزيف مكارثي، والمافيا الإيطالية في نيويورك، وقريباً من جميع شؤون نيكسون الفاسدة، يستقبل ترامب على طاولته. بالمقارنة مع هؤلاء الأشخاص ذوي الوزن الثقيل، فإن دوني (اسم الدلع لترامب) صغير، هو الابن الخجول لرجل أعمال غير ناجح يعاني من مشكلات قانونية. يطلب ترامب المساعدة من كوهين، لحلّ عددٍ من المشكلات القضائية بالابتزاز. يبدأ ترامب شيئاً فشيئاً بصنع اسم لنفسه في عالم العقارات. وفي منتصف السبعينيات، عندما كانت نيويورك شبه مدمرة وخطيرة، يحصل ترامب على عدد من المزايا بفضل كوهين، فيتمكن من بناء فندق «حياة» في قلب المدينة، يحلّ محل فندق مدمّر بالقرب من محطة «غراند سنترال». يتعلّم دوني تسلّق السلم الاجتماعي، وإقناع رؤساء البلديات بعدم دفع الضرائب، ويصبح منتفعاً لا يرحم. علّم كوهين ترامب كل شيء، من الإيمان بنسبية الحقيقة، وعدم إظهار أيّ ضعف، ودفع الفحش إلى أقصى الحدود لتحقيق الأهداف، وطبعاً عدم الاعتراف بالهزيمة. مع حلول الثمانينيات، ونيوليبرالية رونالد ريغان المتطرفة وصعود فيروس الإيدز – الذي أثّر على كوهين وكثيرين حوله - تتغير حياة الاثنين: ترامب في صعود ناري، وكوهين في طريقه إلى الهبوط. وبينما يفتتح ترامب برجه العظيم، يتجاهل وينكر كوهين المريض والوحيد.
لا حاجة إلى عباسي لانتقاد دونالد ترامب أو تقديم فيلم يدينه، فحياة ترامب تدين نفسها. كل ما فعله هو تقديم القصة كما هي، وإبراز كيفية تحول العلاقات الإنسانية إلى مجرّد تبادل خدمات تدعمها المصالح الاقتصادية للموجودين. مع ذلك، فإنّ المخيف في «المتدرب» هو أن الأحداث لا تستند فقط إلى وقائع، بل إن عباسي يتقرّب منها من منظور واقعي مسرحي، مستخدماً الكاميرا على أنها «ذبابة على الحائط»، تراقب كل شيء في آن. صنع عباسي فيلماً بأسلوب الشريط التلفزيوني الفاخر، مستحضراً نظرة محددة إلى العصر الذي يُعيد بناءه، بين السبعينيات والثمانينيات، من السيارات المناسبة والملابس والديكورات، وألوان وعدسة الفيلم المستعملة ونسبة عرض إلى ارتفاع الشاشة التي تذكّرنا بأفلام الـVHS.
يُظهر علي عباسي شخصية بطل فيلمه المتغطرس والمتلاعب والعنصري والمبتذل


لم يفوّت عباسي الفرصة ليظهر الازدراء الكامل الذي يشعر به ترامب تجاه الفن. في مشهد يقع في منتصف الفيلم، يُجري ترامب محادثة مع آندي وارهول (ربما يكون واحداً من أشهر الفنانين وأكثرهم تصويراً في مشهد الثقافة المضادة في السبعينيات في نيويورك)، من دون أن يعرف من هو. لم يسمع ترامب عن وارهول وهو غير مدرك تماماً لمظهره الشهير، فهو لا يهتم إلا بالسلطة والمال، وكل ما يتجاوز تلك الحدود، فهو غريب تماماً عنه. ولحسن الحظ أنّ الفيلم يحتوي على نص يدرك قوسه السردي والحاجة إلى رمزية أحداث معينة تشرح الموضوع، بدلاً من الاكتفاء بترتيبها ترتيباً زمنياً. إن تضخيم اللحظات الدرامية وتبادل النظرات، يُظهر انبهار عباسي بالسطور المرعبة لهذه القصة. ويتحوّل المكتوب على الورق الذي هو استكشاف صريح لصعود ترامب على يد روي كوهين، إلى تحليل للجوانب الأكثر غرابة في الروح الأميركية. يستخدم عباسي هذا التحليل لمحاولة شرح كيف تخلق الرأسمالية الأميركية ثقافة التجاوزات الاقتصادية، وتشجّع عقلية ترامب الأنانية.
قد يكوّن بعضهم فكرة أن عباسي يضفي الطابع الإنساني على بطليه، وهذا الانتقاد يجب أخذه في الحسبان. نعم، أُضفيَ الطابع الإنساني على كوهين بسبب المرض وأداء جيريمي سترونغ القادر على جعل المرء يشعر بالعاطفة تجاه الرجال الحقيرين. لكن في الوقت نفسه، هناك شيء واضح في الفيلم هو أنّ كوهين ربما أكثر شراً من ترامب في تاريخ الولايات المتحدة، وهشاشته ووحدته في نهاية حياته لا تجعلانه بطلاً. من جهة ثانية، لا يحاول الفيلم أن يبيع لنا ترامب إنسانياً، فبطل فيلم عباسي لا يقل وحشيةً عن أولئك الذين ظهروا في أفلامه السابقة. لكنّ «المتدرب» يستخدم الموارد المتاحة له لفهم الأسباب التي صنعت هذا الوحش. على أي حال، كانت الورقة الرابحة لصانع الفيلم هي جعل المشاهد يشعر أن هناك شيئاً أكثر فساداً مخفياً تحت السطح غير المريح الذي يعرضه لنا. ما يكمن تحت السطح هو «الاستثناء الأميركي» والشره إلى النجاح مهما كان.