إنّ صنع فيلم طريق، ذلك الطريق نفسه الذي أشاد به رمز جيل «البيت» الروائي والشاعر الأميركي جاك كيرواك (1922 ــ 1969) كمرادف للحرية والتمرد، هو دوماً عملية حنين. لكّنها مجازفة كبيرة أن تجعل فيلم الطريق هذا يدور حول مجموعة من راكبي الدراجات النارية، بعد أكثر من سبعين عاماً على صدور فيلم «ذا وايلد وان» (1953 – The Wild one) للازلو بينيديك من بطولة مارلون براندو. لقد كان لأفلام راكبي الدراجات النارية، قوة رمزية وأسطورية لصناعة السينما الأميركية. موجة هذه الأفلام غير المكلفة والمربحة بشكل مذهل في أواخر الستينيات، كانت بمثابة بداية هوليوود جديدة، حقبة سينمائية جلبت هواءً نقياً إلى نظام استوديوهات هوليوود. أفلام مثل «الملائكة الجامحون» (1966 – The Wild Angles ـ إخراج روجر كولمان ــ بطولة بيتر فوندا وبروس ديرن)، و«إيزي رايدير» (1969 – Easy Rider ـ إخراج دينيس هوبر ــ بطولة دينيس هوبر وبيتر فوندا وجاك نيكلسون) جعلت السينما جذابة مرة أخرى لجمهور أصغر سناً متأثراً بالثقافات الفرعية والهامشية والطليعية.انقرضت هذه الأفلام تقريباً مع نهاية تلك الحقبة، لتحلّ محلها أفلام العصابات المنظمة والحروب. وغم أننا لا نلاحظ وجود سينما تتحدث عن راكبي الدراجات النارية اليوم، إلا أنّ المخرج الأميركي جيف نيكولز نجح في فيلمه الجديد «راكبو الدرّاجات»، في تقديم نظرته الاسترجاعية لذلك الزمن، بروح شبه كلاسيكية، وقصة تُعيد الجامحين القدماء إلى الشاشة الكبيرة. قصة تجمع الحنين والحضور الجسدي المباشر الذي أصبح نادراً في السينما، عبر مجموعة ممثلين رائعين، يصيحون على دراجاتهم، بينما أجسادهم ووجوههم تحكي ضمنياً قصة ما حدث. إنّها حكاية أن تكون شاباً في ذلك العصر، في قلب الثقافة الفرعية، وبالتالي نمط الحياة والبيئة والثقافة، فضلاً عن التضحية بالأصالة على مذبح الحداثة.


«لقد كان عصراً ذهبياً لسائقي الدراجات النارية»، هكذا قالت كاثي (جودي كومر)، ذات مرة للمصور داني ليون (مايك فايست) في النصف الثاني من الستينيات. منذ عام 1965، كان داني يرافق عصابة دراجات نارية تدعى «المخرّبون» (The Vandals)، من بلدة إلموود بارك الصغيرة، على بُعد كيلومترات من شيكاغو. كان داني يلتقط صوراً لأعضاء العصابة، ويجري مقابلات معهم ومع عائلاتهم، وأصبح في ما بعد عضواً في النادي. بدأ داني بحثه عندما كان «المخربون» في ذروة شعبيتهم في المنطقة وفي خضم مشهد الدراجات النارية المتزايد في الولايات المتحدة. عندما ترك النادي في عام 1973، كان قد انقسم منذ مدة طويلة، وتغير بشكل جذري، نتيجة أسباب عدة. هذا هو الإطار السردي لفيلم نيكولز، المقتبس عن كتاب مصوّر لداني ليون، صدر عام 1967. يكشف الكتاب ولادة وأفول «المخربين»، وقائدهم جوني (توم هاردي)، مضيئاً على عدد من قصص أعضائها، من بينها قصة بيني (أوستن باتلر)، الشاب المتزوج من كاثي، والمنخرط بشكل كبير في النادي، وعلاقته مع جوني.
لم يصنع جيف نيكولز فيلماً جيداً جداً قبل «راكبو الدراجات»، رغم أن فيلمه «ماد» (2012 – Mud)، يقترب من ذلك. نيكولز ذو عالم محدد جداً، هو «أميركا الأخرى»، الريفية، التي لا تتمتع بأي بريق خاص، وتبقى رهينة لمعتقدات غير مرغوب فيها في «أميركا الثانية المتحضرة»، مثل عبادة الأسلحة، والأصولية المسيحية، وعدم الثقة بالدولة المركزية. أميركا هذه، اكتسبت هوية سياسية مع نجاح دونالد ترامب، وفي اللحظة التي تحدثت فيها هيلاري كلينتون عن «البائسين». في «راكبو الدراجات»، نتعامل مع عالم مختلف، وهو تحقيق في أحد أكثر أشكال التهميش والتمرد الأميركية غرابة بين الخمسينيات والستينيات، وتحديداً التفاني في قيادة الدراجات النارية ونواديها. في فيلمه الجديد، وأفلامه السابقة، أثبت نيكولز أنه عالم إثنوغرافي لأميركا التي تختفي تدريجاً. إن رؤيته الدقيقة والمستنيرة والرومانسية للعلامات والرموز الثقافية تمنح «راكبو الدراجات» أصالةً لا يضحّي بها الفيلم من أجل مبالغات درامية غير ضرورية، وبنبرة هشة تكاد تكون وثائقية. صنع نيكولز فيلماً متوازناً بقدر ما هو أنيق في تكوينه، بينما يعكس الجينز والسترات الجلدية الحياة القاسية في الشوارع، حيث يتدفق الكحول في أجساد الرجال، بينما النساء هن الأقلية الصامتة في أحضان أبطالهن المأساويين العدميين.
إن المفهوم العريض الذي يبني نيكولز فيلمه عليه هو الهوية. يمرّ الفيلم على التسلسل الزمني لإنشاء النادي وأسبابه، ثم التحول الحزين لتفككه وبذلك تفكك الهوية. ما يهم في الفيلم هو توصيف الشخصيات، وهوياتها، التي تم تقديمها في البداية بطريقة مبالغة، كما لو كانت كاريكاتوراً. ثم تأتي بعد ذلك الميلودراما التي خلقها نيكولز، لتعظيم مفهوم المجموعة، ثم الانحلال الدراماتيكي للنادي الذي دخله قدامى المحاربين في فيتنام، ومدمنو المخدرات فيه. وبسبب ذلك، استُبدل مفهوم الهوية الجماعية بمبدأ الفردية. أسباب لها أبعاد اجتماعية تتعلق بأميركا نفسها، وتغير مجتمعها مع بداية السبعينيات. من اللافت أن نرى صعود وتطور ونهاية النادي، الذي قد يعتقد المرء ـــ استناداً إلى الصور النمطية ـــ أنهم منظمات عنيفة ذات أغراض إجرامية. لكن نيكولز يظهر لنا جانباً مختلفاً، فكل عضو من «المخربين» الأصليين، ليس منبوذاً من المجتمع، بل يتمتع بوظائف وعائلة، لكنه غير مرتاح لأسلوب الحياة الأميركية، بل يتوق إلى الحرية، والدراجة النارية هي العنصر الذي يجمع كل هؤلاء الأفراد. يدعم كل عضو من الأعضاء بعضهم، ويحترمون القواعد والتسلسل الهرمي للسلطة، وبذلك يصبحون عائلة. يكشف الفيلم عن حاجة هؤلاء الأعضاء إلى الشعور بالانتماء، وبينما يمر المجتمع بالتغيرات، يهجر الأعضاء الأصليون النادي، ويتركون ميثاق شرفهم وصداقتهم لأنّ المشهد في الولايات المتحدة تغيّر، والأعضاء الجدد ليسوا سوى مجرمين عنيفين، هدفهم الوحيد هو الحصول على السلطة وإثارة الخوف.
يكشف الفيلم عن مثلث حب أساسي في الحبكة، يتمثّل في العلاقات الدرامية داخل القصة.
تغّير نادي الدراجات النارية بعدما دخله قدامى محاربي الفيتنام ومدمنو المخدرات

من ناحية، لدينا بيني كشخصية أميركية أيقونية أخرى، تجمع بين ملك الروك وحضور جيمس دين المهيب. كل عنف وحنان بيني مدفون تحت طبقة سميكة من الجلد. من ناحية أخرى، لدينا جيمي المتوحّش بقلب من ذهب مطلي بألوان الرجولة المعاصرة. وفي المنتصف، كاثي، التي تخبرنا القصة بشكل مريح، هذه الورقة الرابحة في الفيلم، الهاربة من مصير الشخصية النسائية، التي تُختزل عادةً في أفلام مماثلة. كاثي، هي السرد، ووجهة نظرها هي نظرة المجتمع، وهي التي حاولت أن تحلم معهما وعاشت شعور الألم باكتشاف أن الحلم مستحيل، وأنه مهما سرّعت، سيظل التغيير أسرع منك.
ينجح «راكبو الدراجات» في أسر الحواس، من دون حركات كاميرا مبالغ فيها، متسلحاً بشخصيات تم تطويرها بموهبة كل ممثل وممثلة. هؤلاء لا يتحدثون كثيراً، لكنهم يسمحون لنا أن نرى كل ما لا يحدث أمامنا. نيكولز، لا يضلّ طريقه أبداً في سعيه إلى بناء تلك الروابط، بين الشحوم ورائحة البنزين وصوت المحركات الصاخبة ودراجات «هارلي ديفنسون»، والصداقة والأخوّة والحب والرجولة التي يظهرها الفيلم، قبل أن يتحول كل هذا إلى عصابة منظمة. يروي نيكولز فيلمه من دون دراما لا معنى لها، لأنّ «راكبو الدراجات» هو في المقام الأول، فيلم حميم، صورة للمحبة والأخوّة. يستحق جيف نيكولز الثناء لأنه توقف على بُعد أمتار قليلة من طموح عدد من صانعي الأفلام من جيله. هو مهتم فقط بتصوير الصداقات، ومعارك الحانات، ورحلة على دراجة نارية، ونمط حياة ساخر وعدمي، تاركاً أبطاله المتمردين خارج الزمن. مع «راكبو الدرّاجات»، نجد أنفسنا أمام سينما لها الفضل في عدم الكذب على مشاهديها... سينما من زمن آخر، خشنة ورقيقة.

* The Bikeriders في الصالات اللبنانية