هناك ممثلات يجعلنا موتهن، نتنهّد قليلاً. تنهيدة تتجاوز الخسارة والحزن. شعور له علاقة بما تعنيه لنا السينما والأفلام والشخصيات، ووجودهم على الشاشة في السنوات التي كنا نكتشف فيها الحياة والسينما في الوقت نفسه. شعور يشبه ما قاله أندريه بازان (1918 – 1958) عن السينما، وكتبها جان لوك غودار (1930 – 2022) في بداية فيلمه «احتقار» (1963 – Le Mépris): «السينما ليست سوى نظرة نستبدل فيها نظرتنا، لتمنحنا عالماً أكثر انسجاماً مع رغباتنا». تلك التنهيدة تأتي، عندما نسمع بخبر وفاة أنوك إيميه (1932 – 2024)، ونظرتنا هذه الأكثر انسجاماً، تأتي عندما نكون شهوداً على حبّ آنّ (أنوك إيمي) وجان لوي (جان لوي ترينتينيان) في فيلم «رجل وامرأة» (1966 – Un homme et une femme) لكلود لولوش... أو نسمع موسيقى الفيلم التي ألفها فرانسيس لاي، وأعاد وضعها بعد 53 عاماً في وداع لولوش الجميل واللطيف والمر، لآنّ وجان لوي في فيلم «أجمل سنوات العمر» (2019 – Les plus belles années d’une vie)، أو نسمع صوت نيكول كروازيل وبيار بارو وهما يغنيان «Plus fort que nous».

برزت أنوك أيميه بوجه مليء بالغموض، وصوت حسّي، وهالة مثل النار النقية التي لا تحرق، بوجه أسمر وشعر داكن وجفون كثيفة. غموض كان فيديريكو فلليني مسؤولاً عن تضخيمه في «لا دولتشي فيتا» (1960 – La Dolce Vita)، ثم جاء لولوش ليوجّه إليه الضربة القاضية بعبارة في «رجل وامرأة». صورتها وهي تجمع شعرها مراراً وتكراراً، الذي تعبث به الريح على شاطئ في نهار شتوي في دوفيل، في المشاهد الافتتاحية لفيلم «رجل وامرأة»، تظل صورةً أيقونية قادرة على تمثيل عصر في تاريخ السينما. غموضها هذا بدأ منذ ولادتها. هناك تقلبات في سيرتها في ما يتعلق بهويتها: سُجلت في البداية باسم نيكول فرانسواز دريفوس من مواليد عام 1932، لكن في مطلع الطفولة والمراهقة غيرت اسمها إلى فرانسواز دوراند. كان والدها يهودياً، ولحمايتها من النازية، أرسلها بالاتفاق مع زوجته، إلى مكان في جنوب غرب فرنسا ثم إلى مكان آخر بالقرب من سويسرا. نشأت مثل زهرة برية في مزرعة تحت رعاية عرّابتها، ولم يكن هناك ما يشير إلى أنها ستصبح أيقونة سينمائية، رغم أنّ والديها كانا ممثلَين.
كانت تريد أن تصبح راقصة، لكن عند عودتها إلى باريس بعد الحرب، قابلها المخرج هنري كاليف أثناء تناولها العشاء في أحد المطاعم مع والدتها، وأعطاها الدور الرئيسي في فيلمه «البيت على البحر» (1947 – La maison sur la mer)، ولكن الفيلم لم يتم إصداره أبداً. كانت شخصيتها في الفيلم تدعى أنوك، فاختارت ذلك الاسم لمسيرتها الفنية، ليأتي لاحقاً الاسم الأخير. في السنة نفسها، أعطاها مارسيل كارنيه دوراً في فيلمه، الذي لم يكتمل أيضاً. لكن أثناء التصوير، صادفت الكاتب والشاعر جاك بريفير، الذي أخبرها بمجرد لقائها، أنه ليس من المناسب أن يكون اسمها أنوك فقط، فاقترح عليها اسماً ثانياً، فقبلته بسعادة وهو إيمي، مرادفاً لحبيبتي أو عزيزتي. وأوصى بها لمشروعه التالي الذي يكتبه «عُشاق فيرونا» (1949 – Les amants de Verona)، من إخراج أنديه كايات.
غازلتها هوليوود، وظهرت في أكثر من سبعين فيلماً من توقيع برتولوتشي، وآنييس فاردا وغيرهما


بعد أفلام عدة في الخمسينيات كانت كافية لتكريسها كممثلة، جاءها مخرج شاب، هو جاك ديمي، لم يستطع الحصول على المبلغ الكافي لتصوير فيلمه الكوميدي الموسيقي بالألوان وسينما سكوب، فصوره بالأبيض والأسود ومن دون أغنيات. مع قبعة، ووشاح من الفرو، وكورسيه وكعب عالٍ يتردّد صداه على أحجار نانت المرصوفة بالحصى، ظهرت لولا بأداء أنوك الاستثنائي! نحن نتحدث عن عام 1961 وفيلم «لولا» (Lola) الذي اكتسب هالةً خاصةً مع مرور الزمن. و«لولا» هي راقصة تنتظر عودة حبيبها الذي تركها حاملاً. «لم أعد أعرف أين تبدأ لولا وأين تنتهي»، قالتها أنوك، وهي أيضاً لم تتخيل أبداً أن الكورسيه يمكن أن يكون شيئاً جميلاً وليس مبتذلاً. جاك بريفير قال عن الفيلم بأنه «مثير وعفيف». أنوك دائماً تقول إن «لولا» هو فيلمها المفضل، لأنه أتاح لها فرصة الرقص في بعض المشاهد، ما ذكّرها بأحلام طفولتها، عندما فكرت في التفرّغ للرقص.
مع صدور «لولا» و «لا دولتشي فيتا» تقريباً في السنة نفسها، أصبحت أنوك سيدة أوروبا. مع فيلليني كانت أكثر بروداً وغموضاً خاصة في فيلم «8½» (1963). وديمي كشف لنا جانبها الأكثر دفئاً وحسية وترحيباً. ثم أعطاها لولوش الدور الذي سيجعلها نجمة عالمية في «رجل وامرأة». استمرت أنوك بالسينما، غازلتها هوليوود قليلاً، وظهرت في أكثر من سبعين فيلماً، لمخرجين كبار من أمثال برناردو برتولوتشي، وآنييس فاردا، وروبرت ألتمان وسيدني لوميت وفيتوريو دو سيكا.
تركت السينما لمدة في السبعينيات، ومن عام 1990 إلى 2014، كرست نفسها بشكل مكثف للمسرح. حياتها العاطفية كانت أيضاً سينمائية، تزوجت أربع مرات، من بينها علاقة مع عمر الشريف. كانت أنوك ساحرة، دقيقة في كلماتها، ولطيفة في شخصيتها. كان الحنين والعاطفة وعدد من الذكريات حاضرة في ذلك المساء في «مهرجان كان» أمام جمهور كبير تأثر بظهورها مع جان لوي ترينتينيان ولولوش في العرض الأول لفيلم «أجمل سنوات العمر» آخر أعمالها. غادرتنا إيمي بتنهيدة تشبهها، فيها عزلة راقية حسية وميلانكولية.