في أوج مجدها، حقّقت «القائمة المشتركة» أقصى ما يمكنها بلوغه من مقاعد في «الكنيست»، فيما تأثيرها الفعلي في تحقيق المطالب اليومية لفلسطينيّي الـ 48، على رغم إمكاناتها ومواردها المادية الهائلة، راوح دائماً مكانه بالقرب من الخانة الصفر. ففي حصيلة ثلاث جولات انتخابية متتالية، تَعمّقت الهواجس الاجتماعية والسياسية والاقتصادية لهؤلاء، وخاصة في ظلّ تفشّي الجريمة والعنف وانعدام الأمن الشخصي والمجتمعي. أمّا سياسة هدم البيوت فلم تتوقّف بخديعة تجميد قانون «كيمنتس» الذي «ناضلت» لأجله «المشتركة»، كما لم تتحسّن الأحوال الاقتصادية للبلديات العربية التي لا تَصلح مقارنة ميزانيّات مجالسها المحلية مع أفقر «كيبوتس» أو مستوطنة يهودية.هذه الدوّامة المفرغة دأبت «المشتركة» على الدوران فيها على مدى سنوات، من دون أيّ مشروع أو رؤية سياسية واضحة، وفي ظلّ انحدار مستوى خطابها الشعبوي القائم على شعارات مِن مِثل «إسقاط نتنياهو» عبر دعم خصمه، الجنرال بيني غانتس (الذي افتتح حملته الانتخابية مفتخراً بأعداد الشهداء الذين سقطوا على يده)، إلى أن برزت الخلافات الأخيرة بين مركّباتها، مُتسبّبةً بانسحاب أربعة أعضاء يمثلون «القائمة العربية الموّحدة». الخلاف الأخير ليس إلّا حلقة في سلسلة خلافات تيّارَين يتصارعان لإرساء صيغة تقود سريعاً نحو هاوية الأسرلة؛ إذ إن انسحاب منصور عباس وقائمته لم يأتِ نتيجة خلاف أيديولوجي، بل بسبب دعم الأخير الصريح لنتنياهو، فيما تبدي «المشتركة» استعدادها لدعم أيّ مرشح صهيوني آخر يمكن أن يسقط رئيس الوزراء الحالي.
إزاء ذلك، تَمثُل أسئلة عديدة ترتبط بإصرار هؤلاء على خوض انتخابات «الكنيست»، على رغم معرفتهم بأن لا مطلب تَحقّق في أروقة البرمان الإسرائيلي، وإنما بفضل نزول الناس إلى الشوارع. فمثلاً، قانون «برافر» الذي ينصّ على هدم عشرات آلاف القرى غير المعترَف بها في النقب لم يجرِ تجميده إلّا بعد تظاهرات ضخمة. تظاهراتٌ تتكرّر اليوم في مدينة أم الفحم كلّ يوم جمعة منذ أكثر من شهرين ضدّ الشرطة الإسرائيلية، المسؤول الأول عن تفشّي العنف والجريمة. كذلك، يُطرح سؤال عن سبب استمرار الأحزاب العربية، بعد فشلها في تحقيق شعار «إسقاط نتنياهو»، في الترويج لمقدرتها على إطاحته، معتقدة أن بإمكانها استعادة ثقة الناس بها.
تقف إلى جانب نتنياهو، من دون حياء، «القائمة العربية الموحّدة» التي انفصلت في هذه الانتخابات عن القائمة «المشتركة»، مُتسبّبةً بتراجع حظوظ الأخيرة إلى حدّ تكاد تفقد فيه نصف المقاعد التي حازتها في الانتخابات الماضية. و»الموحّدة»، التي يُقدَّر أن انشقاقها جاء مدفوعاً من نتنياهو نفسه نتيجة تودُّد ووعود ومغريات، إضافة إلى «كراهية الذات» لدى من يرأس هذه القائمة، ستقف إلى جانب نتنياهو في حال تكليفه تشكيل الحكومة، أمّا إخراج هذا التأييد ففرضياته واسعة وممكنة. لكن التقدير الأكثر ترجيحاً هو تحييد مقاعد القائمة التي يُقدّر أن تكون أربعة إن تجاوزت العتبة الانتخابية، سواء عبر التصويت السلبي أو عبر الامتناع عن الحضور في «الكنيست» لحظة طلب الثقة، الأمر الذي يُقلّل من عدد مقاعد الأغلبية في «الكنيست».
على أن انشقاق «الموحّدة» ساهم في تعزيز موقع نتنياهو، حتى من دون الاصطفاف إلى جانبه، كيف ذلك؟ أيٌّ من الأحزاب الإسرائيلية لا يريد أن يأتلف مع العرب، وهو يخشى أن تستند حكومته إلى أصواتهم في «الكنيست»، وإن عبر امتناعهم عن الحضور في جلسة نيل الثقة، إذ يُعدّ ذلك «عاراً» لا يمكن التعايش معه ومن شأنه أن يقضي على فاعله سياسياً. إلا أن وجود كتلة الأحزاب العربية يؤثّر في نتيجة الانتخابات الإسرائيلية بصورة غير مباشرة، وهو تأثير فعّال جدّاً. ففي الانتخابات الماضية مثلاً، حازت «المشتركة» 15 مقعداً من أصل 120، وبما أن المتنافسَين الرئيسيّين، آنذاك، نتنياهو وغانتس، كانا رافضَين الائتلاف مع فلسطينيّي 48، فقد كان عليهما البحث عن أغلبية مطلقة من 61 عضواً من أصل 105 مقاعد، أي أغلبية تزيد كثيراً على النصف زائداً واحداً من ناحية عملية. لكن انقسام «المشتركة» اليوم سيؤدي إلى إضعافها، وبالتالي ترحيل المقاعد التي ستخسرها إلى الأحزاب الصهيونية على اختلافها، ما يدفع الأغلبية المطلقة إلى أن تلامس مجدّداً موقعها النظري عند الـ 61 مقعداً من أصل 120، الأمر الذي يعني أن معركة تحصيل الأغلبية باتت أسهل على نتنياهو ممّا كانت عليه في السابق.
ولا يضرّ نتنياهو كونُ «الموحّدة» مُشكّلة من أحزاب عربية؛ إذ إنها عملياً تخوض الانتخابات بأجندة شبيهة بأجندة الأحزاب العربية الأخرى (العمل تحت قبّة البرلمان الإسرائيلي لتحقيق الخدمات المدنية)، فضلاً عن شيوع اعتقاد في الداخل الإسرائيلي بأنها مصطفّة إلى جانب «الليكود»، الأمر الذي يجعلها مقبولة حتى وإن كانت فلسطينية بالاسم. وفي ذلك تفصيل مهمّ جدّاً، إذ إنه يظهر وجهاً من أوجه ألاعيب نتنياهو، وكيفية عمله على تعزيز موقعه عبر تليين مواقف الآخرين منه بالتهديد والوعيد والتسبُّب بالخلافات والانشقاقات أو تضخيمها.
تجد حملة المقاطعة ضرورة ملحّة اليوم لإعلاء سقف الخطاب الوطني في الشارع الفلسطيني


وسط ذلك، برزت، مجدّداً، حملة المقاطعة العربية لانتخابات «الكنيست»، والتي بدأت معركتها رسمياً منذ عام 2015، مندفعة بخطاب سياسي وطني عماده المقاطعة المبدئية للمؤسّسة الرسمية الصهيونية، التي يُمثّل «الكنيست» إحدى ركائزها، وأدّت فيها حركتا «كفاح» و»أبناء البلد» الدور الأبرز، إلى جانب مستقلّين ومقاطعين لا ينتمون بالضرورة إلى حركة أو حزب ما. يؤمن أبناء هذا التيّار بضرورة البحث عن جسم وطني بديل لتمثيل الفلسطينيين في الداخل، لا يرتبط بأيّ شكل من الأشكال مع نظام الحكم القائم في إسرائيل. ويرى قادة الحركتين ضرورة ملحّة اليوم لإعلاء سقف الخطاب الوطني في الشارع الفلسطيني، بعدما بذلت «المشتركة» جهوداً حثيثة لإيصاله إلى مستويات لم يسبق أن وصل إليها، عبر الدعوة إلى دعم مجرم حرب صهيوني، أو التبرّؤ من الأسرى الفلسطينيين واعتبارهم مجرمين أو مساوين لمساجين جنائيين يهود.
على هذه الخلفية، عقدت حركتا «كفاح» و»أبناء البلد»، قبل أيّام، مؤتمراً صحافياً استعرضتا خلاله «أزمة النظام العنصري الاحتلالي والإحلالي، والتي ألقت بظلالها على السلوك الانتخابي لدى جماهيرنا الفلسطينية بالداخل». وبحسب المشاركين في المؤتمر، فإن الجماهير الفلسطينية في الداخل «تَعرّضت لحملات إعلامية ترغيبية وترهيبية محمومة من قِبَل أطراف محلية وعربية وعالمية وصهيونية»؛ إذ عملت «أبواق إعلامها المأجورة، بعشرات ملايين الدولارات، على جَرّ جماهيرنا إلى صناديق الاقتراع، مُسوّقة خديعة التأثير على الحكم في الدولة اليهودية وتحصيل الحقوق اليومية المهدورة». وفي ما يتّصل بخلافات «المشتركة»، رأى المشاركون أن هذه الخلافات تَسبّبت في «تشجيع عودة الأحزاب الصهيونية التي كنستها جماهيرنا بعد يوم الأرض الخالد عام 1976، حيث تجرّأت أصوات على التعبير عن دعمها لحزب الليكود الذي يقوده نتنياهو، بل ودعم مرشّحين عرب فيه». أمّا بالنسبة إلى البديل، فقد دعت حملة المقاطعة في مؤتمرها «الجماهير الوطنية التي ترفض الخديعة وتستنفر من أجل كرامتها ونضالاتها الشعبية الوحيدة الناجحة، إلى انتخاب مؤسّساتها التمثيلية الخاصة كلجنة المتابعة، و/أو تشكيل جبهة وطنية بديلة لكلّ مشاريع الأسرلة والصهينة والتطبيع الجارية».

اشترك في «الأخبار» على يوتيوب هنا