كانت المكتبات العامة والخاصة في قطاع غزة، من المنارات المضيئة، وذات الدفء الخاص قبل العدوان الحالي. ووفقاً لأرقام وزارة الثقافة الفلسطينية، فقد دمّر الاحتلال وسرق محتويات 76 مركزاً ثقافياً، و 3 مسارح، و 5 متاحف، و 10 دور نشر، و 80 مكتبة عامة، إضافة إلى تدمير الأرشيف المركزي في غزة، الذي كان يحتوي على 150 عاماً من السجلّات المتعلقة بتاريخ غزة، فضلاً عن قتل 44 كاتباً وفناناً، بعضهم تحت الركام حتى اللحظة.واستناداً إلى رغبة الاحتلال في إزالة غزة من التاريخ والجغرافيا، كان تركيزه التدميري على مرافق العلم والتراث والثقافة، في محاولة منه لزعزعة الهوية الجمعية للشعب الفلسطيني، وتدمير الواقع وقتل الذكريات.
والمكتبات العامة والخاصة في قطاع غزة، ضحية سهلة للعدوان، باستهداف الاحتلال الكتب، باعتبارها وثيقة أساسية وحافظة للمعرفة، وباعتبارها تشكّل تهديداً لروايته المعادية للكتب والكتّاب والقُرّاء.
وخلال أشهر الحرب الطويلة، دُفنت تحت ركام المباني المدمّرة في غزة، كثير من المكتبات التي نزح أو استشهد أصحابها، ولا يساورني شك، بأن الاحتلال وضع المراكز الثقافية والأرشيفات (أرشيف بلدية غزة) والمواقع التراثية والجامعات ومكتباتها ومتاحفها (متحف جامعة الإسراء) كأهداف رسمية للنهب والتدمير، وذلك لاستهداف الإنسان في فلسطين، وغزة خصوصاً، ولنسف تاريخ وذاكرة غزة وحاضرها، وبالتالي تاريخ وذاكرة فلسطين وحاضرها.
وبحسرة وألم شديديْن تحدّث عدد من الكتّاب والأدباء الفلسطينيين عن شعورهم، وشعور مكتباتهم التي أفنوا عمرهم وهم يجمعونها، لحظة تعرضها للقصف، ويسأل بعضهم: هل توجعت حين بترت أيديها ورفوفها، هل أصابها الألم مثل أصحابها، خاصة حين رأوا الكتب محترقة ومهشّمة ومدفونة تحت الركام، وهي التي كان يعيش فيها الكثير من الشعراء، والروائيين، والقصاصين والمفكرين والفلاسفة؟
والمكتبة في غزة هي العالم الخاص، فيها إعدام الكتب والكتّاب، ومنهم وليم شكسبير وتاريخه وأعماله الأدبية، وغابرييل غارسيا ماركيز، وليو تولستوي، وألبير كامو، وجان بول سارتر، وإرنست همنغواي، إضافة إلى محمد الماغوط، وسعدالله ونوس، ومحمود درويش، وطه حسين، وصولاً إلى كتب وكتّاب قصص الأطفال، وكل ما في المكتبة التي كانت بمثابة الفردوس المفقود لأصحابها الذين يتحدثون عنها اليوم، ببالغ الحزن والحنين، والارتباط بالحكاية والمكان. يقول الكاتب شفيق التولي: «لقد التهمت الحرب مكتبتي، ولم تعد الديكة تصيح، لتخبرني عن حال مكتبتي، في زمن دمار البلاد ورحيل العباد». ويقول الشاعر ناصر عطالله: «هذه الحرب تعبث في مكتبتي وتحرق أصدقائي الكتّاب، وتمزّق قصائدهم». أما الباحث الدكتور عبدالله مقاط فيقول: «كل كتاب وكل ورقة من كتاب لها حكاية معي، كانت المكتبة جزءاً مني، لكنها الآن رماد، فقد أحرقها الاحتلال الصهيوني ودمّرها».
ما يحدث اليوم، تكرار لمحاولات محو فلسطين منذ النكبة عام 1948، التي جرى خلالها نهب حوالي 30 ألف كتاب ومخطوطة، من منازل الفلسطينيين. والأمر ذاته فعله الاحتلال عام 1982 خلال اجتياح لبنان، فقد نهب الإسرائيليون وصادروا مكتبة وأرشيف مركز الأبحاث الفلسطينية، كما تضررت المكتبات الفلسطينية خلال الانتفاضتين الأولى والثانية.
سوف تنتهي الحرب، وسيعود الفلسطينيون إلى إحياء كل ما تدمّر، ورفع الحياة عالياً، وكما أعيد افتتاح مكتبة سمير منصور في غزة عام 2022، بعد أن دمّرها الاحتلال في عدوانه على قطاع غزة عام 2021، سيعيد الفلسطينيون افتتاح دورهم الثقافية، ويعيدون لمعهد إدوارد سعيد ومركز رشاد الشوا وغيرهما الحياة.