«انتقامنا يكمن في ابتسامات أطفالنا» - بوبي ساندز، شهيد الإضراب عن الطعام في إيرلندا

حافظ عمر، 2012
في كتابها «خالدٌ في حياتي» تصف ريما كتانة نزال بشكل عميق ومليء بالألم والحب، حياتها مع زوجها الشهيد خالد نزال، كذلك بكثير من التفاصيل الصعبة القادمة من فكرة الاقتران بإنسان يعتبر نفسه مشروع شهيد. وهذا ليس أمراً عادياً، ولا يأتي من فراغ عاطفي أو بلاغة لغوية، إنما من ظروف حياتية ونضالية محددة. وتشير نزال كثيراً في كتابها، إلى كون مشروع المقاومة والثورة يحمل معه رياح التغيير الاجتماعي، ويخلخل كل النظم الاجتماعية، بما فيها نظم الزواج والعائلات والعلاقات الاجتماعية، حتى مشاعر الحب. والثورة الفلسطينية حملت معها علاقات عاطفية، وأنماطاً من الزواج لا يمكن فهمها خارج مشروع المقاومة. وأولها فكرة بناء مشاعر حب وانتماء وحياة مع مشروع شهيد! (ص 120).

في بيتهما ببلدة عرابة جنوب جنين، استقبلتنا رندة موسى، زوجة الشهيد خضر عدنان، برحابة، وكانت زيارتنا في الذكرى الأولى لاستشهاده، ودار بيننا حوار لطيف عن الشيخ عدنان، تناول مراحل حياته المختلفة، وكثيراً ما داخل الحديث مداخلات الأطفال البريئة. رغم ألم وصعوبة فقدان الشخص الذي يعني لهم كل شيء، فهو زوج وأب لـ 9 أطفال، وهو متعلم حاصل على درجتي البكالوريوس والماجستير، ويعمل خبازاً، وقائداً وطنياً.
حياتهم كانت مليئة بالشغف والتحديات. ذكرت رندة أكثر من مرة فكرة أهمية كتابة المذكّرات أو سيرة ذاتية، لحفظ هذه التفاصيل، وللحديث عن الشيخ وإعطائه ولو القليل من ذكر يومياته النضالية في خدمة فلسطين وشعبها. وصحيح أنها تحدّثت عن المذكّرات، كمهمة تتمنى إنجازها، حتى لو لم تقم بنشرها. إلا أننا هنا في هذا المقال، وبناءً على الحوار، نحاول المساهمة في مشروع كتابة وتوثيق سيرة الشيخ القائد الشهيد خضر عدنان.

ثورتنا ثورة إنسان... فجّرها خضر عدنان
منذ إضرابه في سجون السلطة الفلسطينية عام 2000، عند اعتقاله بعد حادثة طرد رئيس الوزراء الفرنسي جوسبان من جامعة بيرزيت، أضرب الشيخ عن الطعام، ست مرات في سجون العدو الصهيوني، بما مجموعه 315 يوماً. كان أولاها إضراب 2011/2012 الشهير الذي بدأ فيه الشيخ مساراً نضالياً بإضراب استمر 66 يوماً رفضاً للاعتقال الإداري، كوّن من خلالها آفاقاً للحركة الأسيرة الفلسطينية في تبني الإضرابات الفردية كأداة نضالية، واعتماد مطلب الحريّة وإنهاء الاعتقال كمطلب أساسي. علماً أن الشيخ لا يدّعي أنه مفجّر ثورة الأمعاء الخاوية، إنما يقول إنه سار على إرث 25 إضراباً جماعياً عن الطعام، خاضها الفلسطينيون في سجون العدو منذ عام 1968. وإضرابات فردية بدأتها الأسيرات الفلسطينيات منذ عام 1998 عندما أضربت الأسيرة عطاف عليان لمدة 40 يوماً، رفضاً للاعتقال الإداري، وبعدها قامت الأسيرة منى قعدان بالإضراب عن الطعام للسبب ذاته.
في الاعتقال الأخير في 2 شباط 2023، اعتُقل الشيخ للمرة 12. وكانت هناك لائحة اتهام موجهة ضده لم يثبت شيء منها، وكان من المفترض الإفراج عنه في صباح 2 أيار 2023، لكن في فجر ذلك اليوم كُتبت له الشهادة، وسار على درب عبد القادر أبو الفحم، وراسم حلاوة، وعلي الجعفري، وإسحاق مراغة، ومئات شهداء معارك الإضراب عن الطعام في العالم، الذين قرروا تحرير الموت من سيطرة السلطات الاستعمارية، عبر اتخاذ القرار بالذهاب إليه بالطريقة والوقت اللذين يختارهما جسد الأسير/ة.
كان الأصل أن يُفرج عن الشيخ خضر لحظة استشهاده، وبعد أن توجهت العائلة إلى المحكمة العليا، كان الرد أنه «ورقة سياسية للتبادل» فبالتالي لم يقوموا بتسليم جثمانه، وكأنهم خائفون منه، وهو حي، وهو ميت. وما قهرهم أنه باستشهاده تحول الشيخ إلى رمز عالمي، ولمست العائلة حب الناس لهذه الشخصية العظيمة. فأتت أمهات الشهداء من كل المناطق، والجدات كبيرات السن أتين وكأن ابنهن هو من استشهد، وهذا إضافة إلى آلاف الناس الذين هتفوا باسمه، وإلى حد الآن، عند كل حدث في عرابة أو جنين، وفي رام الله وبيرزيت، نسمع هتافات للشيخ خضر عدنان، وهذا دليل على محبة الناس ووفائهم له ولنهجه.
من غرفة الضيوف في بيت الشهيد خضر عدنان

الحياة الزوجية
«قضيت كل عمري معه وأنا أودعه» (نزال، مصدر سبق ذكره، ص 132)
كان الشيخ داخل سجون الاحتلال، ورندة نشطة، تتنقل في أكثر من محافظة، من أجل دروس الدين. عندما سمع الشيخ لأول مرة عن هذه الفتاة النشيطة والقوية، فاعتبر أنها مناسبة جداً، وقد كانت صديقة شقيقة الشيخ في جامعة النجاح، تقول رندة: «خرج الشيخ في 17 نيسان 2005 وكان معتقلاً إدارياً. تزوجنا بعد شهرين، لكن هذه الفترة لم تكن فترة عادية، فهو من الأيام الأولى لخروجه أصبح مطارداً للاحتلال! حينها كان متحدثاً باسم الجهاد الإسلامي، وكانت تلك الفترة ذروة عمليات الجهاد، واتهمت الحركة أنها رفضت التهدئة المفروضة بعد الانتفاضة الثانية. كنت أطمح بالارتباط بشخص وطني، فلما التقينا، هو الذي قال: «أنا أعمل في السياسة، في أي لحظة ممكن أن أتعرض للاعتقال أو للاغتيال». وأنا قلت له: «أنا شرطي أن تكمل نضالك، إن كنت تريد أن تعتقل مرة ثانية فأنا موافقة». ولم أقبل بأي مهر، سوى شرط «إكمال حياته النضالية».
وفي ليلة العرس أتت قوات العدو لاعتقاله، كانت رندة عند عائلتها في رام الله، وهو في جنين، والجيش يريدون اعتقاله. فأرسل رسالة لها تقول، إن سيارة ستأتي لتأخذها إلى مكان معيّن، وهكذا بدأت حياتهما الزوجية، مطارديْن! وخلال أول أربعين يوماً من زواجهما، كان الاحتلال يقتحم المنزل يومياً من دون تمكنه من اعتقاله. وكانت وحدها، إلى يوم الاعتقال، الذي جرى من منزل إلى آخر، واستمر هذا الاعتقال سنتين و8 أشهر. خرج عام 2008، وحينها أنجبا أول طفل لهما، واتخذا من الإنجاب أداة من أدوات المقاومة، كتحدٍّ لسياسة السيطرة على الحياة التي تمارسها السلطات الاستعمارية.
تضيف رندة: «أهم ما في الأمر، هي القناعة الكاملة في الفكرة التي يسير عليها زوجي، ولو لم تكن هذه القناعة، لم نكن لنقدر على الاحتمال، وللأسف أحياناً نجد شعور فقدان الزوج أو الابن أو الأب يتحول إلى شعور خسارة، وتتحول مشاعر الفاقدين إلى نقمة على المجتمع، ليقولوا: "لماذا والدي من غير الناس؟"، "لم يقف معنا أحد!". نحن لا نصل إلى هذه القناعة، ببساطة، لأننا نؤمن إيماناً كاملاً بنهج خضر عدنان، ولأننا والحمد لله نلاقي كل الاحترام والتقدير من الناس. الشيخ دفع حياته في هذا الإضراب، بسبب فكرة آمن بها، ورسّخها في عقول الناس، وعندما أعلن إضرابه لحظة الاعتقال، قلت في نفسي إنه لن يعود. ورغم ذلك كان استشهاده أهون عليه من أن يكسره الاحتلال، لأن في استشهاده إعلان نصرين، بينما لو كسر الإضراب، فإن ذلك سيكون هزيمة له وللحركة الأسيرة. فرفض رفضاً قاطعاً التراجع عن قراراته، أو أخذ المدعّمات أو أن يلمس الاحتلال جسده، إن كان في الفحوصات، أو كما جاء في وصيته، رفض أن يقوم الاحتلال بلمس جسده، أو تشريحه بعد الاستشهاد».
شهادة بيرزيت

في الحياة النضالية
«الإنسان الحر إن لم يكن ظاهر الأرض، فباطن الأرض أولى به»
كان فكر الشيخ يقوم على تجاوز المستحيل، وأن يبدأ بالتجربة من العدم، وأهم فكرة كانت مقاومته للاعتقال، وكان يقول: «الحر يرفض الاعتقال، ولو اعتقلوني مئة مرة لن أتنازل عن إضرابي عن الطعام حتى لو أدى إلى استشهادي». وكان مع كل إضراب يرسل لزوجته أفكاراً خارجة عن المتوقع، وثورية حدّ الجنون، مثلاً في آخر إضراب، ذهبت زوجته وأطفاله واعتصموا في دوار المنارة ليلة العيد، تقول هنا: «بصدق أنا كامرأة لم أكن أستسيغها، ليس على نفسي، إنما لم أكن أريدها لأبنائي، لا أريد أن ينكسر في داخلهم شيء. عندما شاهدوا الناس في العيد، والأطفال يحتفلون، ومعهم بلالين، كان الشعور مؤلماً، هذا إضافة إلى مضايقات الأجهزة الأمنية، عدا بعض الناس الذين اعتقدوا بأننا نبحث عن صدقات. لكن اعتصامنا كان يؤلم من لديه ضمير وحس إنساني».
هذه الحالة التي عبّرت عنها زوجة الشهيد الشيخ خضر عدنان، كان الشاعر الراحل زكريا محمد قد كتب عنها بعد هذا الاعتصام: «على دوار المنارة تعتصم زوجة الشيخ خضر عدنان وأطفاله... الذي لم يترك مظلوماً في هذا البلد لم يتضامن معه. ذهبت إلى الدوار فلم أجد سوى رجل واحد، وظلت المنارة فارغة إلا من زوجة الشيخ وأطفاله. يا عيب الشوم على بلد لا تتضامن مع واحد مثل خضر عدنان».
عرابة، جنين

قتلة نزار بنات يصرّون على نهجهم
علينا أن نعترف بأن مجتمعنا الفلسطيني يتحمّل مسؤولية استشهاد الشيخ خضر عدنان، أو على الأقل عدم نصرته وإحباطه معنوياً، وحتى تكريه الشيخ بالحياة الاجتماعية والسياسية من حجم المضايقات التي تعرّض لها. فالمجتمع الفلسطيني يحمل الكثير من الشوائب من الأشخاص المشبوهين أو المعبئين والمُجهّلين. فمثلاً لأن الشيخ كان يتحدث في جنازات الشهداء، قال له أحد الأشخاص في يوم عادي «وأنت يا شيخ بدناش نسمع خبر استشهادك؟» وكان السؤال قادماً من حقد وخبث وكره، ورغم أن الشيخ يتمنى الشهادة، إلا أنه ذهب إلى المنزل حزيناً جداً، وكأن أحدهم طعنه بهذا السؤال. أما الآن، بعد استشهاد الشيخ، فماذا يقول هذا الشخص؟ ومن يسأل؟ طبعاً لأن الشيخ إنسان بسيط يعمل في مخبز، يحمل المعجنات يومياً إلى حسبة قباطية ليبيعها، ومن ثم إلى مقابلات تلفزيونية مهمة. اتهموه بكل الاتهامات، مثل تبييض الأموال، أو الاختباء وراء هذا العمل لتنفيذ أهداف أخرى.
أما عن أكثر الأحداث خطراً، فكان عندما كان الشيخ وزوجته في نابلس لزيارة بيوت الشهداء، وقبل دخولهما إلى البلدة القديمة، أتاهما خبر بأن تنظيم «فتح» منع الشيخ خضر عدنان من دخول البلد، لكن مبدأ الشيخ أنه حر، وهذه بلاده، وليس لأي طرف الحق بمنعه من الدخول. عند منزل الشهيد أشرف المبسلط، توقفت سيارة، وأطلق شاب منها النار عليهما من سلاح «إم 16»، وكان المشهد صادماً جداً، ومخيفاً ومؤلماً، فقد أصيب شاب في قدمه، إلا أن الشيخ وزوجته نجوَا من محاولة الاغتيال هذه. تضيف رندة: «قام شباب الجهاد بإخراج الشيخ من مكان الحدث، وفجأة أصبحت وحدي في الشارع. وحين اتصل الشيخ، وطلب مني المغادرة، قلت له أن يعود حالاً، لأنه يجب أن يأخذ حقه في المكان الذي تم الاعتداء عليه فيه. وعاد مع الشباب، وتجمّع هناك كل شباب نابلس، وأتى إبراهيم النابلسي، واعتذر من الشيخ خضر عدنان وقبّل رأسه، وحينها قام الشيخ بتقبيل رأسي أمام مئات الشباب، وقال إنني تفوقت عليه في الإصرار على عدم المغادرة».

خاتمة
«سأتعلم تدريجياً أن أحب الوجع، لأنه الوحيد القادر على وصلي بمن فقدته وبما فقدته، كم هو حنون وجه الشهادة، لأنه قوي بقدرته على اختراق القدر بجبروت الاستحضار. بالوجع نتعلم، كيف أكون خارج المكان وداخله في نفس الوقت، لأكون بصحبته وأستعيد اللحظة التي ذهبت إلى غير رجعة!» (نزال، مصدر سبق ذكره، (ص. 162)
في وصيته يذكر الشيخ خضر أن «خير بيوتات فلسطين هي بيوتات الشهداء، والأسرى والجرحى والصالحين». وإذا تتبعنا حياة الشيخ خضر عدنان، نجده قد زار بيوت أسرى وشهداء وجرحى من شمال الضفة الغربية حتى جنوبها، وتقول رندة «بالمعنى الحرفي كانت لنا زيارات». وهذا يعني أن كتابة يوميات الشيخ خضر عدنان، قد تكون كتابة مقطع من حياة الشعب الفلسطيني في الضفة الغربية، حيث قصص العائلات والفقدان والمقاومة والصمود والانتصارات. أما عن الأحداث الكبرى، فلها وقع مختلف في حياة الشيخ، فقد كنا سألنا ماذا كان ليفعل لو أنه عاش يوم السابع من أكتوبر، والإجابة كانت، إنه كان علينا رؤية ردة فعله عندما استطاع رفاقه وأبناء بلدته من تحرير أنفسهم في عملية «نفق الحرية»، فهو تعامل مع ذاك اليوم، وكأنه يوم من أيام التحرير الذي تنبأ بها، وقال: «نسأل الله عز وجل أن يكون موتنا حرباً من الحدود إلى الحدود، يرى بنا الاحتلال ما لم يرَه من قبل، حرباً من غزة، ومن لبنان وسوريا، على جميع الأصعدة» وكأنه كان يتنبأ بـ«طوفان الأقصى».