انطلقت قبل أشهر قليلة، مبادرة الطبيب المعروف غسان أبو ستة، بإقامة صندوق حمل اسمه، مخصّص لعلاج الأطفال الناجين من الحرب المسعورة على قطاع غزة، والمستمرة منذ السابع من تشرين الأول العام الماضي.هذه المبادرة، لاقت طريقها إلى إيمان الناس، وإلى عقولهم، فبدأت المبادرات الداعمة لرفد هذا الصندوق بما أمكن من متطلبات مالية، وغيرها، كسؤال القائمين عليها في لبنان، الناس، عن إمكانية استضافة المرافقين للأطفال الجرحى الذين سيصلون تباعاً إلى بيروت لتلقّي العلاج، واستمراره حتى عودتهم إلى عافيتهم الكاملة.
ولعل معرض «من يوميات غزة» للصحافية منى سكرية، الذي رعته «أكاديمية دار الثقافة»، وافتُتح في قاعة «ملتقى السفير» في الطابق الأرضي لمقر جريدة «السفير»، واحدة من تلك المبادرات. فالسيدة المعروفة بمهنتها في حقل الكتابة منذ عقود، تقدّمت هذه المرة كفنانة، عبر مجموعة من الرسومات التي تحاكي في بعضها أحداثاً كبرى حدثت خلال أكثر من ثمانية أشهر، مرت ضنكاً على ملايين البشر حول العالم، ولا سيما أن تمر موتاً وقتلاً وتدميراً على الفلسطينيين في قطاع غزة.
قامت فكرة المعرض على عرض الرسومات بطريقة واضحة وبسيطة، جميعها مغلّفة ببلاستيك شفاف، ومعلّقة بـ«ملاقط» فنية على حبل، ولعل ذلك مقصود، ولا سيما أن قاعة «ملتقى السفير» مجهّزة لاحتضان المعارض. إضافة إلى الرسومات، عرضت «هدايا» طبعت عليها تلك الرسومات، وجميع ما سبق، معدّ للبيع، والريع عائد بالطبع إلى «صندوق غسان أبو ستة للأطفال». افتُتح المعرض يوم 6 حزيران الجاري، واستمر حتى 11 منه. لا أعرف كم بيع من تلك المعروضات القيّمة بروحها وهدفها، ولا أعرف كم لاقت الرسومات استحسان الحضور، وقد كان كبيراً، ولا سيما أن سكرية شخصية معروفة على مستوى لبنان، والدكتور غسان أبو ستة كان في الافتتاح، وقد تكلم فيه، بعد أن رحّبت الشاعر الفلسطينية والمسؤولة في «أكاديمية دار الثقافة» تغريد عبد العال بالحضور، وقدّمت الدكتور والفعالية.
ومن أولى الفنانات التي بادرت إلى مثل هذه الخطوة، أمل كعوش، برفقة عازف البزق الفنان جورج الشيخ، حين قدّمت في 11 كانون الثاني الماضي حفلاً في «ملتقى السفير»، بعنوان «راحة الأرواح»، لتشير كعوش في الإعلان إلى أن «الأمسية تدعم صندوق د.غسان أبو ستة لأطفال غزة». ولتستأنف في أمسيات موسيقية أخرى، يعود ريعها لدعم «صندوق طلاب غزة المغتربين».
تجربة أخرى في بيروت أيضاً، حدثت يوم 29 أيار الماضي، بفعاليات ثقافية شعبية، بتنظيم من مبادرة «حسن الجوار» في الجامعة الأميركية في بيروت، ومركز «رادا ومعتز الصوّاف للشّرائط العربيّة المصوّرة» في الجامعة الأميركية، بالتعاون مع «مسرح المدينة». بدأت هذه الفعاليات بتظاهرة انطلقت من البوابة الرئيسية للجامعة الأميركية، وانتهت عند مدخل مسرح المدينة، الذي كان قد تَحضّر فيه معرض أول مشترك بين مازن كرباج وجنى طرابلسي، بعنوان «لا تتوقفوا عن الرسم: مذكّرات مرئية للتضامن مع غزّة» (29 أيار - 15 آب). ومعرض آخر عنوانه «فلسطين: الفن التاسع يوثّق ويتحدى» (29 أيار - 12 حزيران) وأقيم بالتزامن مع معرض في لندن في غاليري «P21». كما أُطلق كتاب قصص مصوّرة «فلسطين بدون تخدير»، والتقى الحضور في تلك الأمسية بالمغنية وأستاذة الصوت والغناء اللبنانية المعروفة غادة غانم، ضمن حفلة «ترنيمة لفلسطين». الفعاليات السابقة، أقيمت للتضامن والتعبير والتأثير بالتأكيد، لكن أيضاً ليعود ريع بيع ملصقات المعرضين وكتيّب «فلسطين بدون تخدير» وتذاكر الأمسية الغنائية، لدعم «صندوق غسان أبو ستة للأطفال».
الفعاليات السابقة، تشير إلى أهمية الفعل الثقافي، وتوأمته مع القضايا الكبرى، وحضوره في الميدان حين تحين لحظته، والميدان هنا دعم ومساهمة في تمويل مبادرة هامة جداً، ومسؤولة، ومرتبطة بأن يكمل طفل حياته ماشياً، وأن يكمل حياته بيد تعمل وتخدم، لتطبّب لاحقاً وتهندس وتكتب وتشير تحت قوس القضاء دفاعاً عن الشعب، ولتعمل في كل المهن. ومما هو مهم في هذه التوأمة التي أثمرت معارض وكتباً وأمسيات ثقافية لفلسطين، أنها محاولة جديدة لإعادة الفعل الثقافي إلى مكانه ومكانته الطبيعية، وهو الحضور بين الناس، وعدم اقتصاره على «النخب»، والقيام بدور فعّال من أجل الناس، وهم هنا الشعب الفلسطيني الذي تمارس عليه إبادة جماعية مستمرة، منذ أكثر من مئة عام، وقد حملت أشكالاً متعددة، وأمام كل هذه الأشكال، كانت الثقافة تحضر، مرات بجرأة وإقدام، كتجارب الفن الفلسطيني والمعارض الكثيرة، والأفلام التي كانت تواكب الفلسطينيين في مخيماتهم ومآسيهم. ولليوم يبقى فيلم «تل الزعتر»(1976) لمصطفى أبو علي وبينو أندريانو وجان شمعون، وكذلك كتاب «طريق تل الزعتر» من إعداد منى السعودي ومحمود درويش وهاني مندس، والذي حمل في طياته شهادات كثيرة ورسومات لأطفال عاشوا وشاهدوا هول المجزرة.
لكن في مآسٍ كثيرة، كان التفاعل محفوفاً بالخفر والخجل، وربما الخوف من التبعات، ولعل هذا بعض ما يمكن التقاطه عند عدد من المثقفين الذين نأوا بأنفسهم عن أي فعل، وحين تكلموا لجأوا إلى عبارات محايدة نسبياً، أو أنها تعطي انطباعاً بأن «المثقف الفلاني» له رأي مغاير.
الكتابة أعلاه، محاولة للإشارة إلى أهمية الثقافة وفعلها، رغم أنها لن تعيد شهيداً إلى الحياة، لكنها قد تساهم في شفاء جريح. كما أن لها دوراً فعّالاً في التأثير، إن كان الشاعر أو الروائي مؤثراً وله حضور فعّال، مثلاً: الشاعر الفلسطيني تميم البرغوثي، يأخذ دوره في هذه المعركة المصيرية بجدارة، بدأها بفيديو حمل عنوان «تحريرها كلها... بدأ»، وهو اليوم مثل أمه رضوى وأبيه مريد، منتمٍ إلى فلسطين وإلى شعبها، ومؤثّر في آلاف الشباب، الذين وإن عوّل الاحتلال أو راع عربي على نسيانهم لحقهم، قامت حالة فلسطينية أو عربية وردّتهم إلى الصواب، بالكلمة المؤثرة الناخرة لباب القلب والعقل. فكما البندقية تساهم اليوم، وتصوّب العيون نحو فلسطين، تحديداً نحو غزة فيها، ونحو جنوب لبنان، كذلك القلم واللوحة والموسيقى، تساهم في الإشارة إلى الطريق. وكم تبدع الثقافة حين تنتمي إلى الناس، وتصير منهم، لا تعبّر عنهم فقط، بل تساهم في قضاياهم، وهذا ما تفعله منى وجنى ومازن وأمل وتغريد وغيرهم من مبدعين فلسطينيين وعرب، ورغم أن الثقافة قد لا تنتج مالاً كثيراً، إلا أن بوسعها على الأقل أن تحفّز من عنده مال.
وبالفعل، فقد وصل أول طفل جريح للعلاج في لبنان، اسمه آدم عفانة برفقة عمه عيد، وقد أصيب باستهداف منزل عائلته في جباليا في 29 تشرين الأول 2023، فاستشهد والده وشقيقته وجدّته، وثلاثة من أولاد خاله، وعمّته، أما والدته، فتتلقّى العلاج في مصر، كما أن شقيقه أيضاً يعاني من إصابة بالغة.