غزة | ثمّة صراخ وضجيج وتشجيع ممزوج في أحيان كثيرة بضحكات عفوية، أصوات حادّة لفتية وشباب، وواهنة لشيوخ وكبار سن. تقطع تلك الأصوات أحياناً أصواتٌ أنثوية رقيقة. هذه الأصوات في حواري وأزقة شمال غزة التي تعلن دوماً جدارتها بالحياة، وهي التي أريد لها منذ 7 تشرين الأول 2023 وإلى الآن، أنْ تُقتل بصمت وبلا ضجيج، وأنْ تُوأد تحت الركام بلا همس. لكنها الحارات التي حار فيها الساسة والخبراء، وحيَّرت القادة والجند من أعدائها، فقلبت المشهد ونبضت بالحياة، لتخبر العالم أنها تحب الحياة ما استطاعت إلى ذلك سبيلاً.في تلك الحارات، ما بعد العصر، وقبل المغيب، يجتهد الشباب لتثبيت عمودين خشبيين أو قضيبين حديدين، عثروا عليهما من حطام منازلهم المدمّرة، يزرعونهما في الأرض، ويشدان بينهما حبلاً متهتّكاً رمته الرياح، وفي أحسن الأحوال يضعون شباكاً بالية، عثروا عليها في مدرسة قُصفت، من أجل لعب الكرة الطائرة في الغالب. وفي الأثناء، لا يبالون إن كانت السماء فوقهم ملبّدة بالطائرات الحربية، أو إن كانت خالية منها، كما لا يعبأون إن كانت الدبابات الإسرائيلية ترفل وتغوص في الرمال بالقرب منهم، تماماً كما لا يهمهم الالتزام بزي رياضي محدّد للفرق المتنافسة، فهذا ليس وقته، وليس مهماً تغيّب الحكم، فقد يكون قد استشهد أو جُرح أو اعتُقل... ستستمر المباريات في كل الأحوال.
يتحلق أطفال وفتية الحي حول اللاعبين في الملعب، الذي حُددت خطوطه بطريقة وهمية، مثلاً بأثر تخطّه قدم أحد اللاعبين في الرمل، أو بالجير الأبيض، وفي المناطق الإسفلتية، فتُحدد بالطلاء أو بحجارة في أغلب الأحيان مأخوذة من ركام المنازل.
وفي العمارات والبيوت المطلة على «الشيء» الذي أطلقوا عليه تجاوزاً اسم ملعب، تتفرج النساء على المباريات، فهن يؤنسنهم ويسلينهم في ظل المشهد القاتم شمال قطاع غزة بفعل العدوان الإسرائيلي.
يستخدم حكم الحارة –إنْ حَضَرَ- خنصريه ليطلق صافرة بداية المباراة، ومن فورهم يشرع الشباب في اللعب، وضرب الكرة وتصويبها نحو الفريق المنافس، ورغم أنَّ القصف يجاور في أحيانٍ كثيرة الحارة وأرضية الملعب، إلا أن ذلك لا يعني إيقاف المباراة، فالقصف بات معتاداً، وأصواته سيفمونية من سيمفونيات العدوان اللعين.
لا مقاصدَ كثيرة للعب في الساحات الشعبية سوى أمرين، أولهما «مُجَاكرة» وإغاظة طائرات الاحتلال التي ترصد كل حركة وسكون، وكل شاردة وواردة في شمال غزة، وثانيهما، الترويح عن النفس التي أرهقتها وأتعبتها، بل أثقلتها وأنهكتها أطنان المتفجرات التي تُصب على لحومهم ليلَ نهارَ.
تجاوزاً، وافق الشاب محمد علي (26 عاماً) الذي يلقبه فريقه ومشجعوه بـ «الكينغ» أن يوقف المباراة ليتحدث عن الساحات الشعبية، فيما بدا على وجوه اللاعبين التأفف كونهم يحرصون على استثمار كل دقيقة قبل مغيب الشمس الذي سيغرق قطاع غزة في ظلام دامس بعدها، إلا من وميض الغارات الإسرائيلية المتعاقبة. يقول «الكينغ» وهو يمسح العرق عن جبينه بطرف سبابته «بدنا نلعب... بدنا نعيش... بدنا العالم كله يشوف...»، كلماته وتعابير وجهه، يبدو كأنها اختصرت الحديث عن مقاصد اللعب تحت وطأة النار.
يستكمل حديثه، وهو يضم إبهامه إلى سبابته وإصبعه الوسطى في إشارة إلى فرقته، بأن يخفّضوا من صوتهم حتى يكمل الحديث، ويتمكن من إيصال الفكرة كاملة. واللافت في تلك الإشارة بيده اليمنى، هو فقدانه لخنصره وبنصره من كف يده. يعلق قائلاً وهو يضحك: «هذه إصابة في بداية الحرب، قطعوا أصابعي!». تهدأ الأصوات قليلاً، ويتحول الحديث الذي كان يمتزج بالضحك والمقاطعة من قبل أقرانه، إلى حديث ذي شجون: «استشهد ثلاثة من أشقائي في مذبحة الشجاعية في الشهر الثالث من الحرب، لكنّ لدينا إصراراً على الحياة، وليس أمامنا سوى الصمود».
أثناء الحديث مع «الكينغ»، أسند صديق له من الفرقة المنافسة كف يده اليمنى على كتفي، وفي الكف الثانية أشار نحو اللاعبين والمشجعين، قائلاً: «أغلب الناس مجروحون، أغلب هؤلاء الشباب فقدوا أفراداً من عوائلهم، ومعظمهم تعرّضوا للإصابة أو الاعتقال، وبعضهم كانوا يلعبون معنا، اليوم هم في عداد المفقودين، لا نعرف مصيرهم»، يستدرك «الكينغ» وهو يسحب طفلاً بدا أنه في الثامنة من عمره، ليقول: «هذا الطفل مثلاً ابن الشهيد محمد علي الحطاب (25 عاماً)، استشهد والده في مجزرة الشجاعية لدى إنقاذه بعض الجرحى، فيما أصيب معه أيضاً في الحادث نفسه جارنا الشاب محمد وائل مشتهى (25 عاماً) الذي فقد عينيه في نفس الاستهداف». مجدداً يشير «الكينغ» إلى رجلٍ كبير في السن، يجلس على كرسي خشبي قرب أرضية الملعب، ويبدو أن إصابته متوسطة، إذ ثُبتت على يده اليمنى أسياخ من البلاتين، علَّها تقوِّمُ عظامه المتهتكة، يقول: «هذا الحاج أبو محمد اللدعة نازح من منطقة تل الهوى إلى حي الشجاعية، يحاول الترويح عن نفسه بمشاهدة مباريات الطائرة، ألم أقل إننا نحب الحياة». انتبه الحاج اللدعة للإشارة نحوه، فاقترب منا، وهو يقول: «العدو يريد الإجهاز علينا، لكن بإذن الله لن يكون له ذلك»، يردف قائلاً: «نحن ننتظر أن تنتهي هذه المأساة...»، يتنهّد بإرهاق ويأس: «وين العالم يا عمي!».
تقطع أصوات طائرات العدو الحربية الحديث، فيرفع الجميع رؤوسهم نحو الأعلى باتجاه السماء، بدأوا يلوحون بأيديهم باستهزاء: «صوّرونا... اقصفونا». ينظر أبو محمد اللدعة إلى مجاميع الشباب، وبحرص شديد يكتنفه الخوف والوجل، يقول: «تفرقوا... قد تضرب»، يرد من خلفه شاب «انت خايف يا حاج... شو ممكن يصير أكثر من هيك».
ترتصُّ الفرق من جديد، ويبدأ اللاعبون بضرب الكرة، بينما يستقبل الفريق المنافس الكرة بأصابع معكوفة، لترتكز الكرة عليها قبل أن يردوها للفريق المنافس. جو من الإثارة يزداد حماسة مع هتافات المشجعين.
قريباً من هذا المشهد، يوجد مشهد مماثل في مدرسة بدر الثانوية التي تقع قرب المكان التي جرت فيه مجزرة «حي أبو العظام» التي راح ضحيتها نحو 352 شهيداً، في قصف مركّز على الحي الذي أصبح أثراً بعد عين. يجتمع في هذه المدرسة مجاميع من النازحين داخل ساحة المدرسة التي نخرتها قذائف الاحتلال، ليلعبوا مباراة مرة كرة القدم، وفي مرات عدة الكرة الطائرة. وقد أقاموا للأخيرة دورياً سمّوه دوري «شهداء غزة» أشرف عليه الكابتن أبو حسين الميدنة (65 عاماً) الذي كان في شبابه أحد لاعبي نادي الفيصل، وقد نذر نفسه لتنظيم الدوري، فتراه منهمكاً في إعداد جداول المباريات، وتدبير شباك وكرة للمباراة، يقول وتبدو عليه علامات السعادة، وهو في الربع الأخير من الدوري الذي لقي إعجاب واستحسان النازحين في المدرسة، «هذا الدوري يحمل رسالة جليلة أنَّ شعبنا مصرٌّ على الحياة واللعب والفرح، وهو يسلّي النازحين في تلك المدرسة».
وعلى الرغم من فقدان الكابتن الميدنة لبيته المكوّن من 4 طبقات، وكان يؤوي 26 فرداً من العائلة، إلا أنه لا يكفّ عن الضحك والمزاح مع أعضاء الفرق الشبابية، وتراه ينهمك في تفاصيل الدوري، حتى تظن لوهلة أنه نسي تلك الكارثة التي نزلت به وبعائلته، وبمئات الآلاف من الفلسطينيين في غزة، قائلاً وهو يبتسم: «لما أشوف الناس في الحارة والنازحين في المدرسة مبسوطين وبلعبوا... قلبي بيفرح».