ما يجري في سوريا قد يغيّر الكثير من تفاصيل المشهد الاقتصادي اللبناني. فحجم الترابط بين البلدين أكبر من أن يُعبَّر عنه بميزان التبادل التجاري أو بقياس طول الحدود الجغرافية بين البلدين. كل تدهور هناك له انعكاس هنا. وكل تحوّل له تداعياته... فعلى سبيل المثال، بعد امتداد الأزمة السورية على فترة أشهر واشتدادها، أُجبرت المصارف على اتخاذ مؤونات إضافية على تسليفاتها في السوق السورية.
وتطوّرت وسائل التجار السوريين واللبنانيين لاستيراد البضائع إلى سوريا انطلاقاً من لبنان. أما حركة التصدير اللبنانية برّاً فتباطأت لكون سوريا هي المعبر البرّي الوحيد لها. كذلك تقلّصت حركة السياحة بنسبة 23%. أما حركة المستثمرين اللبنانيين في سوريا فتأثرت سلباً بارتفاع أسعار السلع بسبب ضعف سعر صرف الليرة السورية، وحاجة تلك السوق إلى العملات الصعبة شبه المفقودة في السوق السوداء.
لكن بعض مصائب سوريا تحوّلت فوائد في لبنان مع تأسيس السوريين شركات أوف شور تعمل انطلاقاً من لبنان!

مسارات تجارية

يروي بعض رجال الأعمال أن نظراءهم السوريين الذين تضرروا بفعل تصريحات وزير الخارجية السوري وليد المعلّم عن الأوروبيين حين قال: «سننسى أن أوروبا على الخارطة»، ذهبوا يفتّشون عن وسائط لبنانية وعراقية للاستيراد والتصدير بعيداً عن موجة العقوبات الأوروبية والأميركية على السوريين. في ذلك الوقت، كان الاتحاد الأوروبي من أبرز الشركاء التجاريين لسوريا وكان يستورد نحو 30% من مجمل الصادرات السورية، أي ما يعادل 2.7 مليار دولار، وفق بيانات غير رسمية. لذلك كانت هناك حاجة إلى الإبقاء على الشراكات التجارية بعيداً عن العقوبات. في البدء، كان التهرّب من المضايقات الأميركية والأوروبية على التجار السوريين يجري بواسطة أفراد لبنانيين. فبحسب عدد من رجال الأعمال، كان بعض اللبنانيين يستوردون الآلات والسلع الأساسية من أوروبا ودول أخرى بناءً على طلب سوري، على أن يكون التسديد نقداً، من ضمنه عمولات مجزية لهم. هذه الحالة مستمرة إلى اليوم، لكنها خطوة تحتاج إلى ثقة أكيدة بالمستورد العلني في لبنان الذي يحصل على الأموال نقداً لاستيراد سلعة ما، فضلاً عن أنه يصعب توفير عنصر الثقة بمبالغ تزيد على مليون دولار.

أوف شور

ويلفت عضو مجلس إدارة مصرف خاص في سوريا (لبناني)، إلى أن التحايل على العقوبات وابتداع الوسائل المناسبة يأتي تدريجاً، وبالتالي فإن التكيّف مع الأزمة يتطلب وقتاً. هكذا انتقل التحايل على العقوبات وعلى طبيعة الأزمة في سوريا، بعد مضي 10 أشهر من عمر الأزمة، من مرحلة إيجاد شخص لبناني يتعامل لحساب التاجر السوري مباشرة، إلى مرحلة تأسيس شركات في لبنان يمكن أن تقوم بأعمال التجارة بين أوروبا وسوريا من طريق التجارة المثلثة. ففي الفترة الأخيرة، تبيّن لغرفة التجارة والصناعة والزراعة في بيروت وجبل لبنان أن هناك إقبالاً على تسجيل شركات «أوف شور» في الغرفة، وبعد بحث، ظهر أنها مملوكة لسوريين وقد يكون لديهم شركاء لبنانيون.
يعزو خبراء مطّلعون على قوانين الشركات في لبنان تأسيس السوريين شركات «أوف شور» في لبنان إلى أن قانون إنشاء هذه الشركات وتأسيسها لا يفرض على أصحابها أن يكون لديهم شركاء لبنانيون. «فمنذ سنتين أجري تعديل على قوانين إنشائها حتى صار ممكناً أن يكون كامل أعضاء مجلس إدارتها ومساهميها من غير اللبنانيين». سبب هذا التعديل أن هذا النوع من الشركات يهدف إلى العمل على التجارة المثلثة التي يكون لبنان في مركزها الأوسط. كذلك فإنه من ضمن موضوعها المقرّ قانوناً يمكن هذه الشركات أن تتعاطى بالأعمال الآتية: عقود وإدارة شركات، تجارة مثلثة، النشاط البحري، تملّك أسهم في مؤسسات أجنبية غير مقيمة في لبنان، إقراض شركات غير مقيمة، تمثيل وكالات أجنبية في أسواق خارجية.. كل هذه الأعمال تتناسب مع حاجات رجال الأعمال السوريين.

أزمة المصارف

ومن أبرز التقاطعات السورية ـــ اللبنانية الأعمال المصرفية. فهناك 7 مصارف لبنانية تملك مساهمات أساسية في القطاع المصرفي السوري، غالبيتها تعدّ مصارف لبنانية بنحو شبه كامل ولكن بغلاف سوري. هذه المصارف تمارس مختلف الأعمال المصرفية من تمويل وتسليف للأفراد والمؤسسات وفتح اعتمادات وسواها من الأعمال المصرفية المعتادة. في هذا الإطار، قرّرت لجنة الرقابة على المصارف أن تقوم بما يُعرف باسم «اختبار الضغط» لمعرفة مدى وجود قروض متعثّرة في السوق السوريّة ومدى انكشاف المصارف اللبنانية على هذا الواقع.
يقول المطّلعون على هذا الاختبار إن محفظة المصارف اللبنانية تظهر وجود قروض لزبائن سوريين تبلغ 5 مليارات دولار، منها 2.5 مليار دولار مموّلة من المصارف ذات المساهمات اللبنانية في سوريا، فيما هناك 2.5 مليار دولار مموّلة من المصارف اللبنانية، سواء من فروعها الأساسية في لبنان أو الفروع التابعة في أوروبا ودول الخليج.
وبناءً على هذا الاختبار طلبت اللجنة من كل مصرف أن يتخذ مؤونات إضافية، (يعني أموال احتياط لتمويل الخسائر)، بعدما أظهرت نتائج اختبار الضغط أن التسليفات في سوريا تتركّز بنسبة مهمة في قروض الأفراد والتجزئة، وهي الأكثر عرضة للمخاطر، وخصوصاً في الحالة الراهنة. ويتردّد أن مجمل قيمة المؤونات التي طُلبت من كل مصرف بحسب طبيعة محفظة تسليفاته، تصل إلى 200 مليون دولار.
وكان لافتاً أن يعلن بنك عوده ميزانيته الموحّدة في لبنان، مشيراً إلى أن كامل أرباح فروعه في مصر وسوريا والبالغة 42 مليون دولار حُوّلت إلى مؤونات، ومشدداً في ميزانيته المنشورة أمس على أن المؤونات بكامل قيمة التدني تبلغ 368 مليون دولار.
وهذا الوضع في تكوين المؤونات ينسحب على المصارف الآتية: «بلوم بنك»، «بنك بيمو»، «البنك اللبناني الفرنسي»، «فرنسبنك»، «بنك بيبلوس»، «فرست ناشيونال بنك».



8%

نسبة القروض المتعثّرة من مجمل تسليفات المصارف في نهاية عام 2010، ويقدّر أن ترتفع بسبب بعض المؤشّرات السلبية في لبنان الناجمة عن الأحداث في سوريا وتباطؤ الاقتصاد المصري والأردني، حيث للمصارف اللبنانية مصارف تابعة لها



اختبار الضغط

يؤكد المطّلعون على «اختبار الضغط» الذي أجرته لجنة الرقابة على المصارف اللبنانية ومحفظة تسليفاتها الخارجية، أن طريقة تنفيذ الاختبار تخضع لمعايير لا تزال «متخلّفة»، لأنه في ظل لجنة الرقابة الحالية هناك معايير قائمة على احتمالات تتعلق بالزبائن وتاريخهم وتصنيف الحسابات وفق العلاقة والظروف المحيطة. إلا أن التصنيفات الحديثة للحسابات والخسائر المحتملة تقوم على معايير مختلفة، مثل دراسة أوضاع كل قطاع على حدة، ودراسة احتمالات التخلّف عن السداد على أساس هذا الوضع، إضافة إلى هامش صغير من تصنيف العميل (جيد جداً، جيد، مراقبة، خطر...).