تختلط عوامل سياسية واستراتيجية بعوامل أيديولوجية ودينية في إعطاء هذه العلاقة بعداً خاصاً. بعد حرب 1967، أثبتت إسرائيل قدرتها على الإضرار بالحركة القومية العربية، ومنعها من تحقيق هدفها في الوحدة العربية من الناحيتين الجغرافية والعسكرية، وضرب معادي الهيمنة الغربية في المنطقة العربية. وتالياً، أثبتت كونها قاعدة ناجحة للغرب الاستعماري في المنطقة. استقر في وعي النخبة السياسية والأمنية الأميركية، على مدى العقود التالية، إمكانية الاعتماد على إسرائيل في القيام بوظائف مهمة في خدمة المشروع الاستعماري في المنطقة.
يجاور العامل الوظيفي عاملٌ ديني عند قطاع واسع من هذه النخبة، فالصهيونية لها جذور مسيحية في الأساس، والنخب المسيحية الصهيونية في أوروبا هي التي دعمت بقوة المشروع الاستيطاني الصهيوني في فلسطين. في الولايات المتحدة، يشكّل المسيحيون الإنجيليون البروتستانت قاعدة الدعم الرئيسية لإسرائيل، إذ يؤمن هؤلاء بضرورة إقامة كيان يهودي في فلسطين يمهّد لعودة المسيح الثانية، ومن هذه الفئة عددٌ لا بأس به من السياسيين الأميركيين.
تحوّلَ هذا الأمر إلى حالة مؤثّرة على المستوى الثقافي والفكري داخل أميركا والغرب تحت عنوان «الحضارة اليهو-مسيحية»، والمسألة لا تتوقف عند العامل الديني، فالرئيس جو بايدن يعرّف نفسه بأنه صهيوني، رغم كونه كاثوليكياً وليس إنجيلياً بروتستانتياً، وهو يؤكد من منطلق أيديولوجي واستراتيجي إيمانه بأهمية المشروع الصهيوني للولايات المتحدة، ويعتبره استثماراً مهماً تجب المحافظة عليه.
أصبحت الجغرافيا السياسية لأجهزة الذكاء الاصطناعي قضية مهمة ترتبط أهميتها بأسباب الوصول إلى أشباه الموصلات
هناك تشابه يراه كثير من السياسيين الأميركيين بين الحركة الصهيونية الاستيطانية وحركة المستوطنين الأوروبيين الأوائل في أميركا. بمعنى آخر، ما يميّز إسرائيل عن أي كيان سياسي آخر في نظر النخبة السياسية والأمنية الأميركية، هو أن جملة العوامل الأيديولوجية والاستراتيجية والثقافية تؤدي إلى اعتبار إسرائيل «نحن» في تلك المنطقة التي يسمّونها «الشرق الأوسط».
يفسّر هذا حجمَ الاستنفار الذي قامت به إدارة بايدن بعد السابع من أكتوبر من أجل إسرائيل. أرادت الإدارة الأميركية التدخّل سريعاً لإنقاذ رصيدها الاستراتيجي من الغرق في وحول حرب إقليمية كبيرة، ومساعدة الكيان الصهيوني على تجاوز الضربة التي وُجّهت إلى قدرته على الردع، وإعادة تعويمه حجراً أساساً للمشروع الأميركي في المنطقة، القائم على إيجاد منظومة أمنية/اقتصادية تكون إسرائيل رأس حربتها، بالشراكة مع دول عربية، وتشكّل حامياً للهيمنة الأميركية في المنطقة، ورادعاً للخصوم، وعاملاً مساعداً في تفريغ واشنطن لمواجهة التحدّي الصيني.
لكنّ هذا الدعم الضخم والكبير ليس قادراً على إخفاء حقيقة ثبّتها السابع من أكتوبر وما تلاه من أحداث (وكانت قد بدأت قبله بسنوات)، مفادها أن وظيفيّة إسرائيل تآكلت، وأنها ظهرت أكثر اعتماداً على الغرب الاستعماري (وتحديداً الولايات المتحدة) في الدفاع عنها، وأن هيبة الردع الإسرائيلية تراجعت، وزاد التجرؤ عليها في المنطقة. صار القول إنّ إسرائيل رصيدٌ استراتيجي للولايات المتحدة محل شك، وبدلاً من أن تقوم الولايات المتحدة بفك الارتباط جزئياً مع هذه المنطقة لتتفرّغ لاحتواء الصين، أصبحت أكثر تورطاً في المنطقة وانشغالاً بها للدفاع عن استثمارها الكبير.
لا يصل هذا إلى القناعة بأن إسرائيل تفقد قيمتها أميركياً، لكن تضرر وظيفيّة إسرائيل، من جهة، وصورتها الشريرة في عيون قطاع واسع من الأميركيين، وخاصة من جيل الشباب، من جهة أخرى، كل ذلك يجعل النقاش حول تحوّل إسرائيل إلى عبء على الولايات المتحدة ممكناً داخل الأوساط السياسية الأميركية.
ما يعبّر عنه هوفمان في مقاله، لا يختص بموقف القواعد التقدّمية في الحزب الديموقراطي، لكنه قد يبدأ في الظهور عند عدد لا بأس به من «البراغماتيين المعتدلين» داخل الوسط السياسي والأمني الأميركي، الذين قد يرون أن الدعم المطلق لإسرائيل يضر بالمصالح الأميركية أكثر مما ينفعها، ما يجعل مراجعته ممكنة.
الإخفاق الإسرائيلي في الحرب على غزة، وعدم تحقيق أهداف الحرب بصورة كاملة، قد يعيدان تشكيل النظرة في أميركا إلى إسرائيل، لكن تضرر وظيفيّة الكيان لا تنهي ببساطة العوامل الأخرى التي تجعل الولايات المتحدة مستمرة في دعم بقاء هذا الكيان ووجوده، لكن ربما ليس بالطريقة والآليات نفسها التي كان الأمر عليها قبل السابع من أكتوبر.
لقد فقد الكنز الاستراتيجي بريقه في واشنطن، لكنه حتى الآن لم يفقد قيمته.
* كاتب عربي