مطران الفقراء... على خطى المسيح
خلال ربع قرن وأكثر، ضرب لنا غريغوار حداد المواعيد في مختلف الأماكن. رأيناه مع أبناء «الحركة الاجتماعيّة، في مخيّمات شبابيّة، في محاضرات ولقاءات ميدانيّة. وافيناه أحياناً إلى صالونات في أحياء باريس الفخمة، لكنّها المرّة الأولى التي يعطينا موعداً في مستشفى

بيار أبي صعب
بعد «غاليري سمعان»، تدور إلى الشمال وتأخذ الطريق الفرعيّة حتّى المبنى الكبير المحاط بالبساتين. «بيت السيّدة» ليس مستشفى تماماً. إنّه بيت للراحة. الحياة الصاخبة التي خاضها المطران، لا بدّ من أنّها أتعبته قليلاً. ostéoporose... وجدتني أبحث عن عوارض هذا المرض وأسبابه، كما كنت أستقصي، في زمن مضى، أبعاد المصطلحات الفكريّة واللاهوتيّة التي رحنا نكتشفها في كتاباته ومحاضراته. «ترقق العظم» إذاً. اختار الأب غريغوار حدّاد أكثر من مرّة الانسحاب الموقت من المعمعة. اختلى بنفسه مرّة في دير للمتوحدين في فاريا، ومرة أخرى في بطريركية الروم الكاثوليك في الربوة. لنعتبرها إذاً محطّة على الطريق التي بدأت ذات يوم من عام ١٩٢٤ في سوق الغرب، حيث ولد نخلة أمين حدّاد في رحم عائلة إنجيليّة متحدّرة من أصول أرثوذكسيّة.
الجسد تعب من المسيرة الطويلة، والمعارك الكثيرة... لكن الذهن متوقّد كعادته، والمشاغل الإنسانيّة حاضرة كالعادة. يستقبلنا ابن الرابعة والثمانين بابتسامته المعهودة، ويسأل عن الجميع. يلتقط الريموت كونترول قرب السرير، ويسكت التلفزيون، لكن السياسة تبقى حاضرة في الحديث: لا خلاص للبنان إلا في العلمانيّة، وهي لا تعني الإلحاد بأي شكل من الأشكال. هذا الكلام قاله قبل نشوب الحرب الأهليّة. وردّده بثبات، طوال السنوات الصعبة التي سكت فيها كثيرون، أو عقدوا صفقات مع شيطان الطائفيّة. وهذه النظرة حددت كل شغله الميداني، وخصوصاً في إطار «الحركة الاجتماعيّة» التي أسّسها مطلع الستينيات.
عمله الطويل النفَس، والمنتشر في قلب المجتمع بمختلف فئاته، نال دعم حركات اللاعنف في العالم، ومؤسسات كبرى تعتبر أن المسيحيّة هي دين الرأفة والمساواة والتضامن مع الأضعف. الـ Abbé Pierre الذي بات أسطورة في فرنسا، بعدما كرّس حياته للفقراء والضعفاء والمساكين، كان شريكه والنموذج الذي يطيب له احتذاؤه. حين اتهم في باريس باللاساميّة، أواخر حياته، امتشق الأبونا قلمه ودبّج مقالة تضامنيّة تعود إلى جذور تلك المشكلة العويصة (راجع موقعه www.gregoirehaddad.com).
لكن ما الذي دفعه إلى اختيار طريق الكهنوت؟ السؤال مطروح، لأن هذا الخوري الذي عانى من متاعب لا تحصى مع المؤسسة الدينيّة، لا يشبه الصورة السائدة عن الإكليروس. «لم أفعل سوى تطبيق تعاليم المسيح» يعلّق غريغوار بثقة وهدوء، كمن يذكّر بأمر في منتهى البداهة. حين سيم كاهناً (١٩٤٩) بعد دراسة الفلسفة واللاهوت عند الآباء اليسوعيين، اختار نخلة حدّاد اسم غريغوار تيمّناً بالبطريرك غريغوريوس الذي ترأّس كنيسة أنطاكية الأرثوذكسية مطلع القرن الماضي، ووزّع خيرات الكنيسة على الفقراء، أيّام المجاعة.
وحين انتخب السينودس الأب غريغوار حداد، عام ١٩٦٨، متروبوليت بيروت وجبيل وتوابعهما، كان أن طبّق مبادئ العدالة الاجتماعيّة على أكبر أبرشيّة للروم الكاثوليك في البلاد العربيّة، وقام بإصلاحات إداريّة، وأشرك العلمانيين في إدارة شؤون الكنيسة، مستوحياً قرارات المجمع الفاتيكاني الثاني. لكنّ عام ١٩٧٤ سيشهد منعطفاً حاسماً في حياته، مع إطلاق مجلّة «آفاق»، إلى جانب جيروم شاهين وآخرين، ومباشرته مشروعاً فقهياً طموحاً: «تحرير المسيح والإنسان». نظريات الكاهن الذي اختار حياة الفقر والتقشّف، سرعان ما أقامت الدنيا وأقعدتها. نحن في السبعينيات الخصبة، ومدرسة «لاهوت التحرير» وصلت إلينا من أميركا اللاتينيّة. كان هناك كهنة يركبون الدراجات ويعملون في المصانع، وآخرون يطالبون بتعريب القدّاس والليتورجيّة، ويؤكدون على عروبة المسيحيين. والأب بشارة صارجي ينشر كتابه «العلاقات الجنسيّة والدين»... من تلك المرحلة نذكر صورة المطران الشهيرة إلى جانب الإمام موسى الصدر. يومها التقى الرجلان حول أولويّة الاهتمام بالـ«محرومين»، وحوار الأديان.
السلطة الكنسيّة اعتبرت أن كتابات غريغوار في «آفاق» تتناقض مع العقيدة، وانهالت الحملات على «المطران الأحمر». سينودس المطارنة رفع عنه التهمة بعد أشهر من المداولات. ثم مثل الفاتيكان أمام لجنة مختصّة، فبرّأته من تهمة الانحراف عن العقيدة الكاثوليكيّة. ومع ذلك تقرر نقله من أبرشيّة بيروت، إلى... أبرشيّة أضنة (الوهميّة) في تركيا! على العموم كانت الحرب الأهليّة قد بدأت، والمطران قرّر التفرّغ للعمل الاجتماعي، والدفاع عن المشروع العلماني.
لكن الجزء المتصلّب من المجتمع لن يسامحه أبداً. قبل ست سنوات فقط، عند مدخل محطة «تيلي لوميار» الدينيّة حيث جاء يشارك سلسلة تتناول مسيرته وفكره وأعماله، وقف له بالمرصاد شاب أصولي، انهال عليه بصفعة تأديبيّة أردته أرضاً أمام كاميرات التلفزيون... قام الأبونا، نفض ثيابه، وحمل صليبه ومضى، طبعاً بعدما سامح الجاني.
في غرفة «بيت السيّدة» التي تطلّ على أشجار الحديقة، يستلقي المطران الآن في فراشه. يتذكّر ذلك العصر الذهبي. يوم كتب أنسي الحاج رسالة إلى المسيح في الملحق الثقافي لـ«النهار»، يطالبه فيها بأن يعود، رافعاً قائمة القضايا والمعضلات التي ينتظر منه حلّها. أخذ المطران قلمه، وكتب رداً بالنيابة عن عيسى الناصري، بما معناه: وأنت ماذا تفعل هنا؟ ألا تعرف أنني فوّضتك وكلّفت كلّ مسيحي بأن يتولّى بنفسه تحسين العالم وإصلاحه؟... هذا هو الأبونا غريغوار. يعتبر أن سعادة الإنسان على الأرض هي أيضاً وأساساً رسالة الدين المسيحي، وأن مهمّته كرجل دين هي تحسين العالم وإحلال العدالة.
في غرفة «بيت السيّدة» المسكونة بالضوء، يبدو المطران مقتنعاً بضرورة «التحرّك» لتغيير الأوضاع: «الثلاثاء عند الخامسة مساءً، نعقد هنا اجتماعاً مع شخصيات فكريّة وسياسيّة للتباحث في إمكانيات تأسيس حزب سياسي علماني في لبنان. تعالوا وشاركوا معنا في التأسيس»! نتذكّر كل الاجتماعات التي دعانا إليها الأب غريغوار طوال سنوات. قد لا تكون غيّرت العالم، لكنّها ساهمت إلى حدّ بعيد في تكوين عشرات، بل مئات الرجال والنساء: إنّهم خميرة وطن مستحيل اسمه لبنان.


تواريخ

1924

الولادة في سوق الغرب (لبنان)

1952

سيم كاهناً بعد دراسة اللاهوت. ثم انتخبه السينودس في عام 1968، «متروبوليت بيروت وجبيل وتوابعهما»

1974

تأسيس مجلّة «آفاق» حيث نشر سلسلة مقالات تختصر فلسفته في لاهوت التحرير. وأقيل من منصبه على رأس أبرشيّة بيروت

14 حزيران/ يونيو 2002

مواطن متطّرف اعتدى على المطران بالضرب أمام كاميرات التلفزيون

2008

من «بيت السيّدة» يعمل على إطلاق حزب علماني، مع شخصيات فكريّة وسياسيّة مختلفة