لندن | فاجأ الرئيس إيمانويل ماكرون، الجميع في فرنسا، بقراره حلّ البرلمان والدعوة إلى انتخابات برلمانية مبكرة، في أعقاب الهزيمة الساحقة التي مني بها حزبه الليبرالي الوسطي (النهضة) أمام حزب «التجمع الوطني» – أقصى اليمين -، في الانتخابات البرلمانية الأوروبية (حزيران). إذ تراجع تأييد كتلة الرئيس إلى مستوى قياسي – بالكاد حصل على 15 في المائة -، فيما بدا «التجمع» عند أقرب نقطة في تاريخه من الحصول على غالبية. وإذا انسحبت هذه الاتجاهات على الانتخابات البرلمانية فستكون العواقب دراماتيكية، إذ سيتعين على ماكرون ترشيح رئيس وزراء من «التجمع» الذي سيسيطر حينئذ على معظم مفاصل السياسة الداخلية الفرنسية، ويتولى اليسار قيادة المعارضة، ويصبح الوسطيون – حلفاء ماكرون – كتلة ثالثة بلا وزن سوى لدى الانحناء يميناً أو يساراً لدعم إحدى الكتلتين الأكبر ضد الأخرى، فيما سيقضي الرئيس آخر ما تبقى من أيام ولايته الثانية والأخيرة (ثلاث سنوات) كبطة عرجاء عاجزة. وهكذا، تبدو فرنسا على أعتاب نهاية مبكرة للماكرونية السياسية، لن يتعافى منها الوسط السياسي قبل عقد على الأقل، وستكون لها حتماً أصداء تتجاوز حدود فرنسا ولا تتوقف عند بروكسل، فيما تبدو واشنطن قانعة بأي نتائج، ولسان حالها يقول: «أمطري حيث شئت، فخراجك لي».وكان اعتبر ماكرون أن نتيجة الانتخابات الأوروبيّة فرضت لحظة مراجعة ضرورية للفرنسيين كي يقرروا من يريدون أن يحكمهم، متأملاً أن يختار الناخبون بعقلانيّة ومنطق بارد، بدلاً من الميل إلى نداءات الشعبوية اليمينية. لكن هذا المنطق «الديكارتي» المحض لم يكن قادراً على التقاط مشاعر الغضب (من الأوضاع في البلاد) والازدراء (للرئيس وتعجرفه). إذ تشير نتائج الاستطلاعات الأحدث إلى عزم الناخبين على الإقدام على عملية «تطهير» شاملة للماكرونية من الحياة السياسيّة الفرنسية، بكل ما يعنيه ذلك على مستوى الشؤون المحلية، والعلاقات بالاتحاد الأوروبي، بل ومستقبل الجمهورية الخامسة برمته كنظام سياسي ذي رأسين يمنح الرئيس سلطات استثنائية.
ولن ينتظر ماكرون طويلاً ليحصد نتيجة مقامرته الانفعاليّة؛ إذ يتوجه الناخبون غداً (الأحد) إلى صناديق الاقتراع للأداء بأصواتهم لانتخاب نوابهم الـ577، في جولة أولى يمكن للمرشحين الفوز فيها إن هم حصلوا على أكثر من 50 في المائة من مجموع الأصوات، وتأييد 25 في المائة من مجموع عدد الناخبين المسجلين، على أن تخصص جولة ثانية - ستجرى خلال أسبوع (7 تموز) - لفرض النتائج في حال عدم حسم المقاعد من الجولة الأولى، وعندها سيتنافس في كل دائرة لم تُحسم بعد مرشحان اثنان جمعا أعلى أصوات، إضافة إلى أيّ مرشح حصل على تأييد أكثر من 12.5 في المائة من مجموع الناخبين، على أن يفوز الذي يحصل على أعلى الأصوات فقط. وعادة ما تؤدي الجولة الأولى إلى انتخاب عدد قليل من النواب، ما يترك مجالاً للمناورات التكتيكية بين الأحزاب للتفاهم على تقاسم المقاعد عبر انسحابات متبادلة.
لن يكون سهلاً تقدير توزيع المقاعد بدقة كافية بعد الجولة الأولى


ويحتاج الفوز بغالبيّة حاكمة إلى الحصول على 290 مقعداً، وهو أمر يمكن نظرياً - وفقاً لاستطلاعات الرأي - أن ينجح في تحقيقه حزب «التجمع الوطني» إن تلقّى دعماً كافياً من جمهور أحزاب يمين الوسط وحزب أقصى اليمين الآخر («الاستعادة» بقيادة إيريك زيمور)، على أن المرجح أن تحالفاً مثل ذاك قد ينتهي بكتلة تكون الأكبر – بحدود الـ 225 نائباً – لكنها تقصر عن الغالبية. ورغم جهود الزعيمة ماريان لوبان المكثفة لتهذيب حالات التطرف في الحزب – بمن فيها والدها نفسه، مؤسس «التجمع»، والذي استُبعد بعد إدلائه بتصريحات عُدّت معادية لليهود – فإنه لا يزال في جوهره حزباً شعبوياً وقومياً معادياً للمهاجرين وللمسلمين، ولا ينظر إلى المواطنين الفرنسيين كمتساوين، ويَعد جمهوره بمليارات من الإنفاق العام، وبحروب ثقافية ضد الإسلام.
على أن المنافس الأقوى في مواجهة «التجمع»، لن يكون الوسطيون من حلفاء ماكرون، بل «الجبهة الشعبيّة الجديدة»، وهي تحالف واعد بين قوى اليسار وأقصى اليسار أنجز في وقت قياسي تحت ضغط من القواعد الشعبية: «الاشتراكيون»، و«الشيوعيون»، و«الخضر»، و«فرنسا العصية على الانحناء» الذي يقوده نجم اليسار الفرنسي، جان لوك ميلانشون. ورغم أن تلك القوى متشرذمة تاريخياً، لكنها إن التزمت بتوافقها على دعم مرشح واحد من بينها في كل دائرة انتخابية وبالتوزيع الذي اعتمد، فيمكن عندها أن تسيطر على ثلث البرلمان على الأقل، وتشكل كتلة معارضة وازنة. وتعوّل «الجبهة الشعبية» على حماس الناخبين الذين يشعرون بالقلق من مشهد فرنسا وهي تميل نحو اليمين بشكل متزايد، وتحظى أيضاً بدعم النقابات الكبرى، ووعدت الناخبين بإلغاء ما يعرف بإصلاح ماكرون لنظام التقاعد والعودة إلى الوضع السابق. واختار التحالف الذي خاض الانتخابات الماضية في عام 2022 بنجاح نسبي، وحرم حزب ماكرون من الغالبيّة، اسم «الجبهة الشعبية» هذه المّرة، ربطاً بذكريات التحالف اليساري التاريخي الذي حكم فرنسا منذ عام 1936 - عندما كانت الفاشستيات تكتسح السلطة في أوروبا -، وحقق للفرنسيين مكاسب اجتماعية (مثل الإجازات المدفوعة الأجر)، ولا تقل رمزيته عاطفياً عند اليساريين عن الكومونة أو ثورة الـ 1789.
أما «النهضويون» الذين يتزعمهم ماكرون – وهم حزب وسطي يدعم أجندة بروكسيل ويحظى بثقة طبقة رأس المال لكنه فقد تأييد الطبقة الوسطى بعد سلسلة تعديلات على قوانين التقاعد لم تحظ بالشعبيّة -، فسيفقدون حتماً كثيراً من مقاعدهم الـ170 في البرلمان المنحل، وتضعهم الاستطلاعات دون حاجز الـ20 في المائة، متقدمين فقط على الحزب «الجمهوري»، فيما «الجمهوريون» – حزب يمين الوسط التقليدي الذي قدّم للرئاسة جاك شيراك ونيكولا ساركوزي – يبدون منقسمين فيما بينهم بشدة، بعدما تعهّد، رئيسهم إريك سيوتي، بإجراء ترتيبات تكتيكية مع «التجمع الوطني» في الانتخابات، بحيث لا يتنافس الحزبان على المقاعد نفسها، أو يتوافقان على دعم المرشح الأوفر حظاً بينهما. إلا أن قطاعاً عريضاً من قاعدة الحزب يعارض هكذا تفاهم، وإن كان عداء هؤلاء الرئيس يظل دائماً لأقصى اليسار (الذي يمثله حزب فرنسا العصية على الانحناء)، وبالتالي سيجدون في لحظة الحقيقة أن التصويت لـ«التجمع» أخف وطأة من التصويت لليسار.
وعلى أي حال، لن يكون سهلاً تقدير توزيع المقاعد بدقة كافية بعد الجولة الأولى، لكن «التجمع الوطني» يمتلك فرصة عالية لمضاعفة عدد مقاعده في البرلمان المنحل (88 مقعداً) ثلاث مرات بعد الجولة الثانية، فيما سيفقد «النهضة» نصف مقاعده على الأقل. ومن شأن هذه النتيجة أن تترك فرنسا ببرلمان منقسم بين كتلتين كبيرتين (أقصى اليمين واليسار) من الصعب توافقهما على أي شيء تقريباً، ما سيؤدي إلى مأزق تشريعيّ لا يمكن تجاوزه، ويترك البلاد في حالة جمود لثلاث سنوات، ربما في ظل حكومة تكنوقراط أقرب إلى مزاج تصريف الأعمال، لكن نصف الفرنسيين على الأقل يفضلون ذلك على إمكانية فوز «التجمع» بغالبية كافية تسمح له بالسيطرة على البرلمان، وتشكيل الحكومة. وفي الحالتين، فإن التداعيات قد تكون أوروبيّة أيضاً، رغم أن الرئيس سيحتفظ نظرياً بملفَي السياسة الخارجية والدّفاع، إذ إن إجراءات - مثل تمرير المساعدات لأوكرانيا أو فرض قيود على المزارعين والصناعات - قد تتعرض للعرقلة في البرلمان.
ولا يملك العارفون بشخصية ماكرون إلا أن يتساءلوا الآن عما إذا كان الرئيس قادراً على تحمّل وعورة هذا النفق الذي أدخل فرنسا فيه، أم إنه سيرمي بأوراق اللعب في نوبة غضب، ويستقيل من منصبه، ويدعو إلى انتخابات رئاسيّة مبكرة لا يمكنه شخصياً الترشح إليها؟ قد تكون تلك مجرد تكهنات وتمنيات، لكن رئيساً حل البرلمان بينما تأييد حزبه أقل من 15 في المائة، يمكنه طبعاً الإقدام على خطوة هوجاء ثانية في صيف واحد.