تسابق إدارة الرئيس الأميركي، جو بايدن، الزمن لتعويض خسائرها في أفريقيا جنوب الصحراء، وهو ما بدا جليّاً خلال الزيارة التي قام بها مدير مكتب التحقيقات الفدرالية، كريستوفر راي، إلى كينيا ونيجيريا، منتصف الشهر الجاري، واستهدفت خصوصاً إحداث تغيير جذري في استراتيجية واشنطن لمكافحة الإرهاب في القارة، مع بدء خروج القوات الأميركية (والفرنسية) من إقليم الساحل، ودخول روسيا على الخط لملء هذا الفراغ. وعزّزت تلك المقاربة اجتماعات عقدها رئيس الأركان الأميركية، الجنرال تشارلز براون، في نهاية الشهر نفسه (غابروني عاصمة بوتسوانا، 24- 25 حزيران)، مع قادة أركان جيوش نحو 40 دولة أفريقية، ركّزت على المسار نفسه، في ظلّ تزايد المخاوف الأميركية من تفاقم حالة الإرهاب في غرب أفريقيا والقرن الأفريقي، و"تراجع الديموقراطية" في هذه البلدان.
طبيعة الاستراتيجية الأميركية "الجديدة"
كشفت اجتماعات كريستوفر راي في نيروبي ولاغوس، مع كبار مسؤولي الأجهزة الأمنية والقانونية، عن تبنّي واشنطن مقاربة تقوم في جوهرها على جمع أنشطة هذه الأجهزة (مثل إدارة التحقيقات الجنائية، وجهاز الاستخبارات الوطنية، ومفوضية الأخلاقيات ومكافحة الفساد، ومكتب مدير التحقيقات العامة في كينيا)، وإرساء روابط الاتصال الوثيق والمباشر مع كبار المسؤولين. وهدفت الزيارة الأولى من نوعها لمدير الـ"إف بي آي" إلى الدولتين الأفريقيتَين، إلى إظهار التزام مكتب التحقيقات المستمرّ بشراكاته القوية في الإقليم، وإبراز جهود التعاون الجارية لـ"مكافحة مجموعة من التهديدات". وفي ما يخصّ زيارته لكينيا، فهي ركّزت، بحسب بيان المكتب، على مناقشات "مكافحة الفساد والعمل الجماعي لمحاربة الإرهاب". وكذلك الأمر بالنسبة إلى مناقشاته في لاغوس، والتي شملت لقاءً مهمّاً مع الرئيس بولا أحمد تينوبو، وشدّدت على أهمية الشراكة بين البلدين في مسألة "مكافحة الإرهاب والجريمة العنيفة والجرائم السيبرانية، والتعاون الثنائي لمواجهة التهديدات الإجرامية والإرهابية العابرة للحدود (...)". وجاء ذلك في ظلّ تقارير ميدانية تفيد بتدفّق موجة جديدة من العناصر الإرهابيين إلى نيجيريا عبر حدودها الشمالية. ويُتوقّع في هذا الإطار أيضاً، أن يعمّق الـ"إف بي آي" تعاونه مع نيروبي وأبوجا، عبر دمجهما في ما يصفها بشبكة من مكاتب الملحقين القانونيين في العالم، مهمّتها التحقيقات المشتركة ومشاركة المعلومات وبناء القدرات مع شركاء دوليين يتمتّعون بأهمية فائقة لدى "المكتب" من أجل "حماية الشعب الأميركي وتعزيز حكم القانون (خارج الولايات المتحدة)".
تضع واشنطن أولويات "الأمن القومي" الأميركي كضوابط رئيسية لمقاربتها تجاه الإرهاب في أفريقيا


من جهتهما، انتهز الرئيسان الكيني وليام روتو (الذي يواجه معارضة شعبية ضدّ سياساته الداخلية ولا سيما الاقتصادية منها)، والنيجيري تينوبو، المقاربة الأميركية لتوظيفها في ديناميات سياستهما الداخلية والإقليمية، إذ شدّد الأخير، عقب لقائه راي، على ضرورة التعاون بين نيجيريا وبقية دول غرب أفريقيا من أجل "اقتلاع الجرائم التي تُرتكب في (أرجاء) القارة"، مؤكداً عزْم أبوجا الإفادة من مهنية مكتب التحقيقات وسمعته كـ"جهة متميّزة في مجال مكافحة الإرهاب"، لافتاً إلى تحرّك بلاده، باعتبارها رئيس "الجماعة الاقتصادية لدول غرب أفريقيا" (إكواس)، للتعاون مع دول المجموعة لـ"محاربة الإرهاب والجرائم الاقتصادية". ولفت تينوبو إلى أن نيجيريا باتت عند نقطة تحوّل "مع بدء الاستراتيجيات التي تبنّتها قوات الأمن، تؤتي أكلها"، ولا سيما في المناطق الشمالية الغربية من البلاد، وذلك على رغم التقارير الميدانية التي تشير إلى اختراقات كبيرة للعناصر الإرهابيين لحدود نيجيريا في الأسابيع الأخيرة. أما روتو، فإن الزيارة مثّلت بالنسبة إليه خطوة على الطريق الصحيح لتعميق صلاته مع الإدارة الأميركية، وتعزيز مكانة نيروبي كشريك رئيس تعوّل عليه واشنطن في ملفات مواجهة الإرهاب (ولا سيما في الصومال) والجريمة المنظّمة الدولية والتطرّف العنيف في الإقليم ككلّ.

الجيش الأميركي على خط مواجهة الإرهاب: جعجعة بلا طحن؟
اتصالاً بالسردية الأميركية التقليدية حول الإرهاب في أفريقيا، استهلّ قائد القيادة الأميركية في أفريقيا (أفريكوم)، الجنرال مايكل لانغلي، في حديث إلى قناة "فوكس" (23 الجاري)، كلامه بالإشارة إلى تضاعف أعداد "الإرهابيين الجهاديين في أفريقيا بنحو عشرة أضعاف (منذ عام 2008)"، لافتاً إلى أن "نسبة هؤلاء في أفريقيا كانت تقف عند 4% من إجمالي أعداد العناصر الإرهابيين في العالم، وارتفعت راهناً إلى 40%"، ليخلص إلى حيوية الدور الأميركي مستقبلاً في مواجهة هذا الانفلات وتداعياته، قبل أن يقفز مباشرة إلى تناول مخاوف الجيش الأميركي إزاء "العمليات الصينية في أفريقيا"، ومؤشرات تطلّعات بكين إلى فرد عضلاتها العسكرية في القارة "عبر مبادرة الحزام والطريق". وتطرّق بعدها إلى روسيا التي نجحت في التمدّد في القارة، ثم "غرس بذور التضليل الإعلامي"، والذي مكّنها من نيل مواطئ قدم لها في الساحل وجمهورية أفريقيا الوسطى وليبيا.
وعلى الأرض، حضر ملفّ "مكافحة الإرهاب" وبقية التهديدات الأمنية بحسب رؤية واشنطن، خلال قمة قادة أركان الجيوش الأفريقية مع الجنرال براون في غابروني، والتي عُقدت تحت عنوان "معاً على مرصدنا (نقف): توسيع التعاون والقيم المشتركة" (في تناص توراتي مع نص سفر حبقوق-2)، حيث أكدت قيادة القوات الأميركية في أفريقيا أهمية مناقشة "القضايا الأمنية المهمّة"، وأن المؤتمر (الدوري) يمثّل فرصة أمام القادة الأفارقة لوضع هدف مشترك نحو إنهاء حالة عدم الأمن في القارة. وكرّر براون أنه، وعلى رغم سحب بلاده قواتها من النيجر وإخلاء قاعدة مهمّة لمواجهة الإرهاب فيها، إلا أن دول غرب أفريقيا (وفي مقدّمتها نيجيريا وغانا) تتطلّع إلى العمل معنا "وربما تكون منفتحة على توسيع الوجود الأميركي" في الإقليم. ولفت إلى نقطة بالغة الأهمية، مفادها أن المؤتمر مثّل فرصة لواشنطن للبناء على علاقاتها القائمة بحيث يمكن نقل "بعض القدرات التي نملكها في النيجر إلى مواقع أخرى"، فيما أشار مسؤول أميركي إلى أنه من غير المرجّح "الإعلان عن بناء قاعدة عسكرية كبيرة" في مكان آخر في غرب أفريقيا بعد الخروج من النيجر.
وهكذا، يبدو أن مدار المقاربة الأميركية تجاه الإرهاب في أفريقيا ستظلّ رهناً برؤية ملتبسة، إذ تضع أولويات "الأمن القومي" الأميركي كضوابط رئيسية لها، فيما تمثّل الأزمة الخطيرة التي تواجه القارة منذ عقود، ظاهرة سوسيو-سياسية واقتصادية ضاربة بجذورها في بنية المجتمعات والدول الأفريقية، ويتمثّل أحد روافدها في السياسات الأميركية والغربية نفسها، فضلاً عن عدم جدوى التدخل الدولي - الإقليمي في مناطق النزاعات في القارة، على نحو يعظّم من حظوظ تمدّد جماعات الإرهاب والعنف المسلّح، والتي حظي بعضها بدعم مباشر وغير مباشر من قِبَل واحدة من أهم حلفاء الولايات المتحدة في أفريقيا: فرنسا.