لم ينظر الديموقراطيون عموماً، بمن فيهم الرئيس نفسه، بعين الرضى إلى المناظرة الأولى في «رئاسيات أميركا». فالمواجهة التلفزيونية بين جو بايدن ودونالد ترامب، والتي وصفها مراقبون بـ»الكارثة السياسية لبايدن»، عكست أسوأ أداء يسجّله رئيس أميركي منذ بدء العمل بتقاليد المناظرات التلفزيونية، مطلع ستينيات القرن الماضي. وقد نجم عن تلك الكارثة بدء نقاشات جدية بين الديموقراطيين حول جدوى الإبقاء على ترشيح بايدن، من منطلق أن الرئيس الثمانيني بالكاد تمكّن من حسم السباق داخل الولايات المتأرجحة عام 2020، حين كان أداؤه الجسدي والذهني أقوى.
نقاش «ديموقراطي»
خلال أقل من 48 ساعة من عقد المناظرة، استُعيد النقاش حول هوية مرشح الحزب الديموقراطي في «رئاسيات 2024»، على مستويات عدّة شملت وجوهاً قيادية داخل الحزب، وأعضاء بارزين في مجلس الشيوخ، وآخرين من رجال الأعمال، وكبار المانحين لحملات المرشحين الديموقراطيين. وفي ضوء ذلك، برزت ثلاثة اتجاهات رئيسية: أولها يدعو حزب الرئيس إلى التوقّف عن إضاعة الوقت والبدء على الفور في عملية البحث عن مرشّح بديل منه، في حين يحذّر ثانيها من أن حمل بايدن على سحب ترشيحه، بفعل ضغوط صادرة عن قيادة الحزب والمانحين، سيُعدّ بمثابة انتحار سياسي للديموقراطيين، وتسليم مسبق بالهزيمة في وجه ترامب. أما أنصار الاتجاه الثالث، فيتبنون مقاربة وسطية، تقوم على دراسة متأنية للخيارات البديلة، واستكشاف أصدائها لدى الناخبين، قبل الشروع في اتخاذ أيّ قرار على هذا الصعيد.
وبالاستناد إلى عينة من الآراء، يكاد يكون أمر تنحية بايدن منوطاً به قبل أيّ شخص آخر، إذ يعتقد الخبير في شؤون التخطيط والاستراتيجيات الانتخابية في الحزب الديموقراطي، ديمتري ميهلهورن، المعروف بعلاقاته الوثيقة مع ريد هوفمان، المؤسّس المشارك لموقع «LinkedIn»، والذي يُعدّ أحد أهم المانحين للحملات الانتخابية للديموقراطيين، أن «بايدن وحده الذي يتحكّم في مصيره كمرشح عن الحزب الديموقراطي»، مضيفاً أن «أيّ نوع من حملات الضغط (لتنحية بايدن) لا يعدو كونه مضيعة للوقت والجهد والمال». ويدعو عضو مجلس الشيوخ السابق عن ولاية أيوا، توم هاركين، بدوره، في رسالة وجّهها إلى الهيئات المعنية داخل الحزب، جميع زملائه ومحازبيه من أعضاء مجلس الشيوخ الحاليين، ومن حكام الولايات، إلى مطالبة بايدن بسحب ترشيحه، إفساحاً في المجال أمام تحديد المرشح البديل في «المؤتمر الوطني الديموقراطي» أواخر آب، معتبراً أنه «لا يزال هناك وقت لتصحيح مسار (الحزب)، وتجاوز حسابات بايدن الأنانية». ومن جهته، يكشف عضو ديموقراطي في مجلس الشيوخ، في حديث إلى شبكة «سي إن إن»، عن عدم ممانعته تنحّي بايدن، مستدركاً بأن «قرار الحزب مرهون بإرادة الرئيس الذي يستحقّ أن يُعطى التقدير، والمساحة التي يحتاج إليها للتوصّل إلى أيّ قرار».
يحظى بايدن بإجماع التيارات المتصارعة داخل الحزب، ما يعني استحالة الرهان على تبنّي الديموقراطيين مرشّحاً آخر غيره


فرضيات انتخابية
ووسط تضارب المؤشرات حول ما إذا كان بايدن قادراً مستقبلاً على محو «صورة الهشاشة» التي صدّرها خلال مناظرة الخميس الماضي، واستعادة ثقة الجمهور في شأن قدرته على الحكم في المناظرة المقبلة المقرّرة في أيلول، تتباين التقديرات لدى بعض قادة الحزب في شأن التداعيات المحتملة لتنحية مرشّحهم في توقيت حرج، أي قبل شهرين فقط من موعد انعقاد «المؤتمر الوطني الديموقراطي»، وذلك سواء على مستوى وحدة الحزب، أو على مستوى فرصهم في الفوز في الاستحقاق المنتظر أواخر العام الجاري، ولا سيما أنّ بايدن تمكّن خلال «التمهيديات» من حصد العدد الأكبر من أصوات الناخبين والمندوبين، فضلاً عن أنه يحظى بإجماع التيارات المتصارعة داخل الحزب، ما يعني عمليّاً استحالة الرهان على ذهاب الديموقراطيين إلى تبنّي مرشّح آخر غيره، إلا برضى منه.
وبحسب محللين، فإنّه حتى في حال قرّر الحزب تبني «فرضية المرشّح البديل»، فإن نائبة الرئيس كامالا هاريس، التي تبدو حظوظها أعلى من غيرها على هذا الصعيد، لن تضمن بالضرورة فوزها بترشيح الحزب، لأسباب تنظيمية، وأخرى سياسية تتعلّق بضعف حضور الأميركية المنحدرة من أصول هندية، في أوساط محازبيها. وبخصوص المرشحين الآخرين، فقد اعتبر أبرزهم، وهو حاكم ولاية كاليفورنيا غافين نيوسوم، أن الخوض في إمكانية استبدال بايدن «أمر غير ضروري، وغير مجدٍ»، مؤكداً «(أنّنا) لن ندير ظهورنا (للرئيس) بسبب مناظرة واحدة».

ماذا يدور في خلد بايدن؟
في المقابل، يتسلّح مؤيدو بايدن بعدد من المؤشرات التي يصفونها بـ»الواعدة» لإبقائه في السباق، ومن جملتها الأصداء الإيجابية التي لاقتها كلمته أمام حشد من الناخبين في ولاية كارولينا الشمالية، بعد ساعات من لقائه ترامب، فضلاً عن نجاح حملته في جمع قرابة 27 مليون دولار في غضون يومين فقط من المناظرة نفسها. من هنا، تنقل شبكة «سي إن إن» عن مستشار كبير في حملة بايدن، تأكيده أنه «لا وجود لخطة في شأن تسمية خليفة لبايدن»، وأن الأمر «إشكالي للغاية». وتضيف الشبكة، نقلاً عن مصدر رفيع في فريق الحملة الانتخابية لبايدن، أن «الطريقة لجعل الأخير يفكّر في خيار التنحي، هي من خلال تقديم بيانات على درجة عالية من الصدقية ترجّح وجود مخاطر فعلية تلحق بالحملة الانتخابية للديموقراطيين، ليس في انتخابات الرئاسة وحسب، بل في انتخابات مجلس النواب ومجلس الشيوخ والانتخابات المحلية الأخرى في جميع أنحاء البلاد». ومن جهتها، تلفت شبكة «إن بي سي» إلى أن «الشخص الوحيد الذي له تأثير حاسم على الرئيس، هو السيدة الأولى جيل بايدن».
وعلى أي حال، يتمسّك مؤيّدو بايدن، إلى الآن، بفرضية وجود فرص لدى حزبهم للفوز في الانتخابات الرئاسية والتشريعية، على رغم هفوات الرئيس. ومع ذلك، فقد بدأ، منذ انتهاء المناظرة، يُسجل تململ داخل قواعد الحزب الديموقراطي، إذ تجمهر حشد من ناشطيه لدى حضور رئيسهم إحدى الفعاليات الانتخابية في نيويورك، السبت الماضي، وقد حملوا لافتات تطالب الرئيس بالانسحاب، كُتب عليها: «نحن نحبك ولكن حان الوقت (لتتنحّى)».