لندن | وصل جوليان أسانج، مؤسس موقع «ويكيليكس»، إلى مطار العاصمة الأسترالية كانبيرا، حيث كانت في انتظاره عائلته ومحبوه، ليبدأ صفحة جديدة من حياته، بعدما أقفل للتو صراعاً قانونياً مفتوحاً مع السلطات الأميركية والبريطانية، امتد لخمسة عشر عاماً، وكلفه حريته وصحته محتجزاً لعدة سنوات في غرفة صغيرة في مقر سفارة الإكوادور لدى لندن، ثم أسيراً في سجن بلمارش المخصص لعتاة المجرمين والإرهابيين شمالي العاصمة البريطانية. وكان الصحافي الأسترالي الجنسيّة قد نشر، عبر «ويكيليكس»، بداية من عام 2010، مئات الآلاف من الوثائق العسكرية السرية للجيش الأمريكي بشأن حروب واشنطن الإجراميّة في أفغانستان والعراق، بما فيها شريط ذاع صيته صُوّر من مروحية أمريكية استهدفت بالرصاص مجموعة من المدنيين في بغداد، كان من ضمنهم اثنان من العاملين لدى وكالة «رويترز»، إلى جانب مئات آلاف البرقيات الديبلوماسية من أرشيف مراسلات الخارجية الأمريكية والتي كشفت عن طرائق عمل الإمبراطوريّة في فرض هيمنتها على دول العالم. وألقي القبض على أسانج، لأول مرة، في بريطانيا عام 2010، بناء على مذكرة اعتقال أوروبية، بعد أن قالت السلطات السويدية إنها تريد استجوابه بشأن جرائم جنسية مزعومة - تم إسقاطها لاحقاً -. وهو لجأ، بعد إطلاق سراحه بكفالة، إلى سفارة الإكوادور، حيث مكث هناك لمدة سبع سنوات، قبل أن يتم سحب الحماية الديبلوماسية عنه في 2019، لدى تولي تيار يميني موالٍ لواشنطن الحكم هناك. وقد كان من المفترض إطلاق سراحه عندئذ بسبب سقوط المطالبات السويدية الملفقة، لكن ممثلين عن الحكومة الأمريكية في عهد الرئيس السابق، دونالد ترامب، تقدموا بطلب لتسلمه من الحكومة البريطانية، وووثقوا لدى المحكمة مذكرة اتهام لأسانج تضمنت 18 تهمة غالبيتها وفقاً لقانون التجسس الأميركي، ويصل مجموع عقوباتها، حال إدانته، إلى 175 عاماً. وعليه، قررت محاكم لندن إبقاءه في الاعتقال إلى حين الفصل في طلب التسليم الذي ما لبثت أن وافقت عليه حكومة بوريس جونسون، ما استدعى محاولات مكثفة من فريق الدفاع لتقديم طعونات واستئنافات، بالاستفادة من كل ما يمكن أن يسمح به القانون البريطاني، لوقف التنفيذ.
ويبدو أن مفاوضات سريّة جرت في الأسابيع القليلة الماضية، بين فريق الدفاع القانوني عن أسانج وإدارة الرئيس جو بايدن، وبوساطة من الحكومة الأسترالية، للوصول إلى صيغة تسمح بتجنب الأسوأ للطرفين: إذ إن تسليم أسانج للجلاد الأميركي كان أشبه بحكم إعدام، بينما مشاهدٌ للقبض عليه وسجنه في الولايات المتحدة ستكون إضافة أخرى إلى الأجواء السلبية المحيطة بالحملة الانتخابيّة للتجديد لبايدن. وانتهت المفاوضات بصفقة عاد بموجبها الصحافي الأسترالي إلى بلاده، بعد رحلة على متن طائرة مستأجرة أخذته وفقاً لاتفاق مكتوب مع وزارة العدل الأميركية، وأبلغت به المحكمة الملكية العليا في لندن، إلى جزيرة سايبان – وهي إحدى جزر ماريانا الشمالية التي تحتلها الولايات المتحدة في المحيط الهادئ –، حيث أقر (الأربعاء) بأنه مذنب بتهمة واحدة وهي التآمر للحصول على معلومات سرية مرتبطة بالأمن القومي للولايات المتحدة، ونشرها خلافاً لقانون التجسس الأميركي.
وبناءً عليه، حكم عليه فوراً بالسجن لمدة 62 شهراً، أي ما يعادل تقريباً الوقت الذي قضاه بالفعل في سجن المملكة المتحدة أثناء النظر في قرار تسليمه إلى الولايات المتحدة. واكتفى المدّعون العامون بتلك المدة ولم يطلبوا له المزيد من السجن، فأطلق سراحه ليأخذ من توّه الطائرة الخاصة إلى العاصمة الأسترالية كانبيرا، حيث وصل ليجد مطالبة بانتظاره بدفع ما يقارب النصف مليون دولار أميركي تكلفة الرحلة التي فرضت السلطات الأسترالية عليه استعمالها في طريق العودة. وكان أسانج (52 عاماً) قد وصل إلى مقر المحكمة في جزيرة سايبان إلى جانب كيفن رود، سفير أستراليا لدى الولايات المتحدة ورئيس الوزراء السابق، كما حضر معه ستيفن سميث، المفوض السامي الأسترالي لدى المملكة المتحدة، والذي رافق أسانج على متن الطائرة بعد إطلاق سراحه من سجن بلمارش اللندني. ورفض أسانج، وفقاً لطلب الحكومة الأسترالية، تلقي أسئلة من الصحافيين خلال هذه الإجراءات، لكن محاميه قالوا لهم خارج مقر المحكمة إن الادعاء على أسانج غير مسبوق واعتداء على حرية التعبير، معتبرين في الوقت نفسه أن الوقت قد حان لإنهاء المعركة وترك الرجل بسلام ليستأنف حياته مع عائلته. وعُلم أن الاتفاق مع وزارة العدل الأميركية تضمن إسقاط جميع التهم الأخرى الموجهة إلى أسانج في ما يتعلق بتسريبات «ويكيليكس»، فيما سيُمنع من دخول الولايات المتحدة ما لم يصدر عنه عفو رئاسي.
وعبّر جون شيبتون، والد أسانج في حديث إلى شبكة أسترالية، عن شعور بالحبور يملؤه والعائلة لإطلاق سراح ابنه، وشكر لذلك السياسيين والمسؤولين الأستراليين، بمن فيهم رود، والشعب الأسترالي، لحملتهم التضامنية التي أدت إلى التوصل إلى اتفاق مع وزارة العدل الأميركية والبيت الأبيض، فيما قالت زوجته، ستيلا، إن أسانج بحاجة إلى الوقت للتعافي وإعادة استكشاف الحريّة، وإنها تريد أن تكون لدى جوليان خصوصية كافية من أجل ذلك. ورغم خيبة أمل كثيرين من أنصار أسانج مما اعتبروه تنازلاً منه للسلطات الأميركيّة، وسابقة قانونية يمكن أن تبني عليها حكومة الولايات المتحدة ودول أخرى مستقبلاً لخنق الصحافة الاستقصائية ومطاردة كاشفي جرائم السلطات بتهمة التجسس، إلا أن آخرين دافعوا عن الصفقة المعقّدة واعتبروها بشكل ما انتصاراً لأسانج وقضيته. ونقلت صحف لندن عن جنيفر روبنسون، قائدة فريق الدفاع القانوني عن أسانج، قولها إنها تأمل في أن يعطي انتصار الصحافي الأسترالي على كل الصعاب، وضد أقوى الحكومات في العالم، الأمل لجميع الصحافيين والناشرين الذين يقبعون في السجون اليوم.