لندن | يتوجّه نحو 375 مليون ناخب أوروبي إلى صناديق الاقتراع، اليوم، وعلى مدى ثلاثة أيام، لاختيار ممثّليهم إلى البرلمان الأوروبي (أعلى سلطة تشريعية في منظومة الاتحاد الأوروبي التي تغطّي مظلّتها 27 دولة)، فيما يغيب عنها، للمرة الأولى، الناخبون البريطانيون الذين اختاروا لبلادهم الخروج من عضوية الاتحاد في عام 2020. ويدشّن الناخبون في هولندا عملية التصويت اليوم، وتليهم إيرلندا ومالطا (الجمعة)، ولاتفيا وسلوفاكيا (السبت)، فيما يصوّت مواطنو بقية الدول، في الـ9 من الجاري. وتجري الانتخابات ليوم واحد في كل بلد، باستثناء التشيك حيث تستمرّ على مدى يومين (الجمعة والسبت)، وكذلك إيطاليا (السبت والأحد)، فيما تتزامن الانتخابات الأوروبية في بلجيكا، مع الانتخابات العامة والبلدية. وتجدر الإشارة إلى أنه يحقّ للمواطنين الذي أتمّوا الـ18 من عمرهم، اختيار ممثّلين عنهم إلى البرلمان القارّي، علماً أن عمر التصويت في ألمانيا والنمسا وبلجيكا ومالطا هو 16 عاماً، وفي اليونان 17 عاماً.وتكتسب هذه الدورة البرلمانية أهميّة خاصة، ليس فحسب بسبب التحديات الإستراتيجية التي سيتولّى النواب صياغة التشريعات لمواجهتها خلال السنوات الخمس المقبلة، ولكن في ضوء طبيعة تكوين البرلمان في ذاته، حيث يُعتقد، وفق استطلاعات الرأي المتقاطعة، أنه سينتهي إلى أغلبية يمينية تميل إلى منازعة المركز البيروقراطي في بروكسل مساحات السيادة في السياسة والاقتصاد وحتى الثقافة، وتدفع نحو تكاملٍ أقلّ بين سكان الاتحاد. ويصادق البرلمان، الذي يتّخذ من بروكسل وستراسبورغ مقرين رئيسين له، أيضاً، على الميزانية السنوية للاتحاد الأوروبي (وصلت هذا العام إلى 189 مليار يورو)، كما يَنتخب أعضاؤه، رئيس المفوضية الأوروبية (الجهاز التنفيذي للاتحاد)، ويشرفون على عمل وزراء المجلس الأوروبي. وستكون إحدى أولى مهامّ البرلمان الجديد، النظر في التجديد للرئيسة الحالية، أورسولا فون دير لايين، أو تكليف رئيس جديد.
ويُفترض أن تُعلن، صباح العاشر من حزيران، أسماء الفائزين بالمقاعد الـ720 للبرلمان، حيث تُحدّد النتائج وفق مبدأ التمثيل النسبي ليتناسب عددها مع عدد السكان؛ فتتمثّل ألمانيا - كبرى دول الاتحاد - بـ96 مقعداً، فيما تتمثّل مالطا ولوكسمبورغ وقبرص بستة نواب لكلّ منها. على أن الكُتل البرلمانية تتموضع بحسب اتجاهاتها السياسية بين اليمين واليسار، بغضّ النظر عن جنسية البلد الذي يأتي منه النائب. وتتباين شهية الأوروبيين للمشاركة في البرلمانيات، إذ اقترع أقلّ من 51% منهم في الدورة الأخيرة (2019)، لكنّ الخبراء يتوقّعون إقبالاً أكبر هذه الدورة، بحكم تعمّق الاستقطابات في عدد من دول الاتحاد الأكبر، ولا سيما فرنسا، وألمانيا، وإيطاليا، وبولندا.
وتقليدياً، تقاسم الوسطيون الهيمنة على مقاعد البرلمان الأوروبي، بين مجموعة يمين الوسط (الشعب الأوروبي)، ويسار الوسط (تحالف الاشتراكيين والديموقراطيين). وفي البرلمان الأخير، صعد أيضاً تجمّع «تجديد أوروبا» الليبرالي، و»حزب الخضر» (التحالف الأوروبي الحر) الذي أصبح ثاني أكبر مجموعة برلمانية. لكنّ مجموعات اليمين وأقصى اليمين («المحافظون» و»الإصلاحيون الأوروبيون»)، ومجموعة «الهوية والديموقراطية»، قد تصبح الكتلة الأكبر في البرلمان المقبل. كما ثمة مجموعات أصغر، يسارية وقومية، فضلاً عن نواب انفصاليين من إقليم كاتالونيا الإسباني، وهؤلاء لا يقبلون الانضمام إلى إحدى المجموعات الأكبر، ويحافظون على استقلال مواقفهم عند التصويت.
السياسة الأوروبية مفتقدة، في هذه المرحلة، إلى زعماء تاريخيين يديرون الدفة ويقودون المسار نحو مرافئ آمنة


ويراهن أطياف اليمين وأقصى اليمين الأوروبي على تحقيق نتائج ممتازة في عدد من دول الاتحاد الأكبر، التي مسّتها لوثة القوميّات المتطرّفة والعداء للمهاجرين، من إيطاليا إلى فرنسا، ومن النمسا إلى بلجيكا، ومن ألمانيا إلى هولندا وغيرهما، الأمر الذي قد يجبر كتلة يمين الوسط على التفاهم معهم على حساب اليسار والليبراليين، لضمان تمرير التشريعات في البرلمان. ويهدّد ذلك بكبح جماح القوانين المتعلّقة بالمناخ والبيئة والطاقة المستدامة، وتغيير اتجاهات العمل على القضايا الاجتماعية والاقتصادية، فضلاً عن صعوبة بناء توافق شامل حول دعم نظام كييف في المواجهة الجارية مع روسيا.
ومع ذلك، لا يثير هذا التحوّل في المزاج الانتخابي للأوروبيين نحو اليمين، أيّ قلق لدى واشنطن، إذ إن الخبرة الأحدث للولايات المتحدة في التعامل من الأجيال الجديدة من اليمين الأوروبي المتطرّف تبدو إلى الآن في غاية السلاسة، حيث «يكافح» النازيون الجدد في أوكرانيا (ليست عضواً في الاتحاد الأوروبي بعد) ضدّ الجيش الروسي، فيما قدّمت جورجيا ميلوني (زعيمة ورثة الفاشيست في إيطاليا) أداءً مثالياً لرئيس وزراء براغماتي على المزاج الأميركي في إطار «حلف شمال الأطلسي»، والاتحاد الأوروبي، و»مجموعة السبع»، منذ تولّت المنصب التنفيذي الأهمّ في بلادها عام 2022. كما أن حزب «البديل من أجل ألمانيا» (أقصى اليمين)، بأجندته التي تعادي الأجانب، يمثّل ورقة جيدة للضغط على ائتلاف حلفاء واشنطن في السلطة في برلين، لمزيد من التبعية والخضوع. وتبدو مارين لوبن، زعيمة «التجمّع الوطني» الفرنسي، المرشّح لانتصار كبير في برلمانيات أوروبا، وكأنها أعادت تموضعاتها بشكل كلّي بحيث لا تتعارض بأيّ شكل مع المصالح الأميركية. وحتى دول يحكمها أقصى اليمين، مثل هنغاريا والتشيك، وجدت دائماً طرقاً لبناء التفاهمات، ولا سيما مع «الغرام الزائد» الذي يُظهره فيكتور أوربان لتل أبيب، في وقت يعيد فيه كثيرون التفكير في علاقاتهم مع الكيان، على خلفية حرب الإبادة الجارية في قطاع غزة.
ويقول خبراء إن السياسة الأوروبية مفتقدة، في هذه المرحلة، إلى زعماء تاريخيين يديرون الدفة ويقودون المسار نحو مرافئ آمنة، من طينة الجنرال ديغول، وجاك شيراك، وأنجيلا ميركل. ولذلك، فإن الهموم المحلية تسيطر على اتجاهات الناخبين. ففي شرقي أوروبا ودول البلطيق مثلاً، هناك هاجس الأمن والهلع من إمكان عودة الدبابات الروسية إلى شوارع المدن، في حال تمدّدت الحرب في أوكرانيا خارج الحدود، حتى إن نداء رئيس الوزراء البولندي، دونالد تاسك، لمواطنيه كان «التصويت أو مواجهة الحرب». لكن في سلوفاكيا، الأصغر إلى الجنوب، وفي هنغاريا، يتحدّث السياسيون عن الحاجة إلى «تسوية» مع موسكو، تترجم تنازلات من كييف، بما يمنع توسّع نطاق النزاع في أوكرانيا، بينما تسيطر على مزاج الناخبين في غربي القارة: ألمانيا، وفرنسا، سياسات التعامل مع الهجرة، وقضايا دعم المزارعين؛ وفي جنوبها: ارتفاع تكاليف المعيشة وانعكاسات التغيّر المناخي على الحياة اليومية والاقتصاد. ولا شكّ في أن كثيراً من التصويت في «العرس الانتخابي» الأوروبي، سيعكس هذا التنوع المحلي في الهموم، ما قد يصعّب من قدرة المركز في بروكسل على إدارة المخاطر الاستراتيجية العابرة للحدود.