زرت دمشق للمرة الأولى عام 1983. كنت طفلاً لا يتجاوز الخامسة من عمره، فلم يعلق من صور المدينة في ذاكرتي الطفولية سوى اثنتين: الأراجيح وألعاب الأطفال في حديقة ألعاب الأطفال المطلّة على «نهر عيشة»، وقصص الأطفال الملوّنة المصفوفة بعناية على رفوف «مكتبة ميسلون» التي حرص والدي على اصطحابي إليها في كل زيارة للعاصمة.جاءت زيارتي «الواعية» الأولى بعد ذلك التاريخ بثلاثة عشر عاماً. وللأسف، لم يكن الانطباع العام لتلك الزيارة جيداً. لا أزال أتذكر كيف تغيرت رائحة الهواء ولونه حالما بدأت الحافلة تنحدر مجتازة منطقة «التنايا»، قبل وصولها إلى المدخل الشمالي للمدينة. بدا واضحاً مدى تلوّث الهواء بهباب الفحم والغازات السامّة المنبعثة من مصادر مختلفة. لاحقاً، عندما بدأت التنقّل داخل دمشق، لفت نظري أنه في مقابل الحيوية والحركة المفعمة بالحياة للمدينة التي لا تنام، يلمس المرء بوضوح الفوضى اللافتة التي تسود الشوارع والأحياء. فوضى مرورية سببها ضيق الشوارع وسوء التنظيم، وأخرى عمرانية ذات أسباب متنوّعة. تلك الفوضى لا تحتاج إلى عين متخصّصة لاكتشافها، فهي واضحة لمن يزور أحياء «ركن الدين، القدم، الدحاديل، مزة 86، التضامن» وغيرها. في المجمل خرجت بانطباع مفاده أن «مدينة الياسمين» لم تواكب التطور العمراني لقريناتها، ولم تلبس ثياباً عصرية تليق بمكانتها. مرّت الأيام، وشاءت الظروف أن أتابع دراستي الجامعية في كلية الهندسة المعمارية بجامعة حلب. لاحظت أثناء سكني في حلب، أنها في العموم أكثر تنظيماً من دمشق، لكن أحياءها الشعبية كـ(الميدان والصاخور والنيال وميسلون) ليست أفضل حالاً من ناحية التنظيم والبنى التحتية من مثيلاتها في دمشق (مع التنويه بشبكة الطرق والجسور التي كانت الدولة تُبدي اهتماماً واضحاً بتطويرها في تلك الفترة). مع الزيارات المتفرقة لمدن سورية أخرى، (طرطوس، اللاذقية، درعا، دير الزور، حمص وحماة)، بدأ يلحّ عليّ ــ بحكم اختصاصي الجامعي ــ تساؤل منطقي: «متى سيبني السوريون مدينتهم المعاصرة التي يستطيعون أن يفاخروا بتنظيمها وحداثتها وبنيتها التحتية وحدائقها ومرافقها العامة المتكاملة وشوارعها الفسيحة...»؟
كان السؤال الحالم يكبر في ذهني مع كل خطوة خلال دراستي الجامعية. ويمتزج بما كنت أتعلّمه في مقرري «نظريات تخطيط المدن» و«التصميم المعماري»، وبسير معماريين كبار ورواد من أمثال حسن فتحي ولوكور بوزييه ولويس كان وفرانك لويد رايت، الذين كانت لكل منهم مدرسته الخاصة في التصميم المعماري أو تخطيط المدن.
في السنة الرابعة من دراستي الجامعية، عرضت على زميل أن نتقدم بمشروع تخرّج مشترك، فكرته الرئيسة تنظيم مدينة جديدة على أطراف البادية السورية، تكون بمثابة «المدينة النموذجية» القابلة للتكرار حتى على صعيد المدن السورية القائمة والمأهولة، وإن لم يكن المشروع مثالياً، نكون على الأقل قد خطونا خطوة في هذا المسار، وفتحنا باباً لغيرنا. للأسف، اصطدم مشروعنا بعوائق عدة لدى بلوغنا مرحلة التخرّج، جلّها باختصار عوائق إدارية، إذ لم تُجز إدارة الكلية مشاريع التخرّج المشتركة في ذلك الفصل الدراسي. وتحت الشعار البرّاق «ربط الجامعة بالمجتمع» ألزمتنا الإدارة باختيار مشاريع تخرّج مطروحة من إحدى الجهات العامة (طبعاً لم يكن أحد يفكر بالطرح الذي كنا نفكر فيه وقتها). حاولت تبني مشروع مطروح من القطاع العام، وأقرب إلى ما كنا نفكر فيه «مساكن نموذجية لعمال الفوسفات في ريف حمص»، لكنني اصطدمت بوجهة نظر أحد الأساتذة المشرفين: «ما لك وللمشاريع السكنية. لن تتمكن من دراسة مشروع كهذا بشكل جيد خلال ثلاثة أشهر. الأفضل أن تتبنى مشروعاً أسهل كالمركز التجاري المطروح على أرض بجوار الجامعة». خاب أملنا، وتخرجنا بمشروعين بعيدين كل البعد عما كنا نفكر فيه.
انتقلت بعد تخرّجي بفترة قصيرة للعمل في دولة الإمارات العربية المتحدة. وكأي مغترب كنت أعقد مقارنات دائمة، بين واقع المدن السورية وواقع المدن في دولة الاغتراب (للأسف كانت الكفة دائماً تميل لصالح المدن الإماراتية). إن تجربة عملي في الإمارات، عزّزت قناعاتي السابقة بضرورة العمل على تحديث الاتجاه العمراني في سوريا. وأظن أن الخطوة الأولى في هذا الاتجاه، هي البدء بدراسة وتنفيذ مدينة سورية نموذجية جديدة، تكون مثالاً يُحتذى للانطلاق نحو إعادة تنظيم وتحديث بنية المدن السورية القائمة. وفي الوقت ذاته، تؤّمن هذه المدينة السكن والخدمات المطلوبة لبعض من دُمرت مساكنهم خلال الحرب، وبما يعطي مجالاً زمنياً للدولة السورية لإعادة تنظيم وإعمار الأحياء المدمّرة في المدن والأرياف السورية المختلفة.
*مهندس معمار مغترب