منطقة الشرق الأوسط، أو غرب آسيا كما يُشار إليها على نحو متزايد، هي بمنظور الولايات المتّحدة الأميركيّة منطقة نفوذ وسيطرة لا تحتمل خروجها عن الطوع، فضلاً عن رفض تشاركها وتقاسمها مع طرف آخر. لكن العالم يشهد اليوم تداعي القطبيّة الأميركيّة على مستوى العالم، وتنامي حضور الصين على الساحة الدوليّة بالتوازي مع تقدّمها على صعيد حماية مداها في بحر الصين، وقد حذّرت جارتها الجزيرة تايوان من المضي في معاداتها بالالتحاق بركب «حلف شمالي الأطلسي ـ الناتو» الذراع الضاربة. كما يشهد تنامي حضور روسيا/ بوتين بعد انهيار روسيا السوفياتيّة وما خلّفه هذا الانهيار من سنوات عجاف تشتتاً اقتصاديّاً ووطنيّاً، حتى مرحلة استعادة الثقة، حتى باتت قادرة على أن تقول «لا» لأميركا. إذ شهد مجلس الأمن أكثر من فيتو روسي بالتحالف مع الصين بهدف حماية سوريا من العدوان الأطلسي الذي كان وشيكاً. وقد تعلّمت روسيا والصين الدرس جيداً بعد الذي أصاب ليبيا من دمار وانهيار، وقد وقعتا في الشرك حين وافقتا على خطّ «حظر الطيران» ليبياً، ما شكّل ثغرة اقتنصتها أميركا ومنها نفذت قوّات الأطلسي «للاعتداء على الدولة الأفريقيّة الشماليّة الصغيرة».

ضمن هذا الإطار، أنجز الكاتب والأكاديمي الأسترالي تيم أندرسون (مؤلِّف كتاب «الحرب القذرة على سوريا»/ 2016 الذي تُرجم إلى عشر لغات) كتابه الجديد «غرب آسيا ما بعد واشنطن ـ تقويض الاستعمار في الشرق الأوسط» الذي صدر عام 2023 (انتقل أخيراً بطبعته الثانية إلى العربية عن «دار دلمون الجديدة»/ دمشق ـ ترجمة إيزابيلا زيدان) قبل الحرب الإباديّة على غزّة. في هذا الكتاب، يبرهن الباحث الأسترالي عن موسوعيته وموضوعيته وكثرة مراجعه، رافضاً الظلم والطغيان وسرقة ونهب ثروات الشعوب والأمم المستضعفة، وهو بذلك يسير على خطى كتّاب ومثقّفين، ومنهم مثالاً لا حصراً المؤرّخ إيلان بابيه الذي ندّد ويندّد بالاستعمار الغربي الصهيوني في فلسطين المحتلّة.
يجمع تيم أندرسون عطاءه النظري بالممارسة المتجلّية باشتراكه الذي لا ينقطع ـــ إلا لأمر قاهر ـــ في التظاهرات الأسبوعية التي تشهدها سيدني منذ تسعة أشهر ضدّ العدوان على غزّة الذي تشترك فيه أميركا وبريطانيا وفرنسا وألمانيا وأستراليا والمستوطنة أو المستعمرة الأميركيّة/ الأوروبيّة الأطلسيّة، أي الكيان الصهيوني الذي يهيمن على أرض فلسطين بالمجازر ومصادرة الأراضي والتعذيب والتهجير القسري منذ عام 1948. على مدى أكثر من 300 صفحة تزدحم بدروس التاريخ، يسرد المؤلف كيف أنّه في مطلع القرن العشرين، شنت واشنطن سلسلة من الغزوات والحروب بالوكالة ضد شعوب ودول المنطقة، تحت شعار إنشاء «شرق أوسط جديد». تضمّن هذا الهجوم شنّ حروب إعلامية واستخدام قوات إرهابية بالوكالة، وخصوصاً الجماعات الإسلامية المتطرّفة المدعومة من واشنطن وحلفائها الإقليميين، مثل السعودية وقطر وتركيا وإسرائيل. لكنّ مقاومة تلك الحرب أدّت إلى تشكّل كتلة إقليمية بقيادة إيران، باتت ترتبط اليوم بعلاقات أكثر جوهرية مع الكتل المناهضة للهيمنة الأوسع بقيادة الصين وروسيا. ومع فشل حروب واشنطن المتعددة من أجل «شرق أوسط جديد» خاضع لهيمنتها، وحلول الصين محل الولايات المتحدة كمركز إنتاجي واقتصادي عالمي، يحاول المؤلّف وضع تصوّر لمستقبل الدول العربية والإسلامية في الشرق الأوسط على ضوء هذه التغييرات. لذا، يناقش في عمله تراجع الهيمنة الأميركية، وجذور الفاشية الغربية، وثقافة الإلغاء الصهيونية، والورقة الكردية في سوريا، وتطهير «الشرق الأوسط الجديد» من المسيحيين، وخيانة اليمن، ويأخذنا داخل إدلب السورية. ثم يتطلع إلى المستقبل القريب، مع الأخذ في الحسبان الانسحاب الإستراتيجي لواشنطن، وإرث القائد الإيراني الشهيد قاسم سليماني، وإمكانات تفكيك إسرائيل العنصرية ورفع الحصار عن سوريا وتعافيها. من دون هذا الكتاب، لا يمكن أن نبلغ على نحو أفضل، أبعاد التوتّر والصراع الدموي في غرب آسيا بهدف التحرّر من العولمة الأميركيّة المتوحّشة، ولا أبعاد النضال للتحرّر إقليميّاً بقيادة إيران والحلفاء في سوريا وصنعاء والمقاومة في غزّة ولبنان والعراق، كما بقيادة فنزويللا على المستوى الإقليمي، فضلاً عن حضور تحالفات «شنغهاي» و«بركس» وعلى رأسيهما كلّ من القطبين المنافسين للولايات المتّحدة الأميركيّة على مستوى العالم، أي الصين وروسيا.
فشل حروب واشنطن الرامية إلى تشكيل «شرق أوسط جديد»


يقول أندرسون: «الدول الضعيفة يسهل زعزعة استقرارها». ولا يمكن أن نفهم تتالي الحروب العدوانية على شعوب فلسطين، ولبنان، وسوريا، والعراق، وإيران واليمن إلا على قاعدة أنّها حرب إقليميّة واحدة تندرج ضمنها التدابير الأميركيّة القسريّة الأحاديّة الجانب أي العقوبات، والحروب بالوكالة كتمويل المنظّمات الإرهابيّة واعتماد الاغتيال بفجور طال مناضلين التحموا في وحدة المصير، فالشهيد القائد قاسم سليماني كان في غزّة أكثر من مرّة، وفي لبنان عام 2006، وفي كل مكان مشتبك مع قوى العدوان. باغتيال سليماني، ظنّ الرئيس الأميركي الأسبق دونالد ترامب أنّه قطع رأس المقاومة الإقليميّة لمشروع «الشرق الأوسط الجديد» و«الفوضى الخلاقة».
«غرب آسيا ما بعد واشنطن» كتاب «بالغ الأهميّة لفهم سبب اعتماد المستقبل الأفضل لغرب آسيا على إيران، الدولة الصغيرة نسبيّاً في المنطقة من حيث الناتج المحلّي الإجمالي أو احتياطات الأسلحة وسبب إساءة فهم إيران بسبب الدعاية الإعلاميّة الغربيّة الشرسة» وفقاً لما كتبت دينا سليمان، مديرة «المركز الإندونيسي لدراسات الشرق الأوسط» على صفحة الغلاف الخارجي. فإيران تتمتع بموقع جيوسياسي إستراتيجي، وتحالفها مع روسيا والصين سوف ينتج قوّة متعدّدة الأقطاب.