ليس خبراً جديداً، أن تنشر أي وسيلة إعلامية عالمية أن إسرائيل ستشنّ حرباً على لبنان. لكنّ الأمر يصبح لافتاً عندما تسرّب قناة مثل «سي أن أن» خبراً بأن وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن أبلغ أحد نظرائه العرب بأن إسرائيل تنوي الهجوم على لبنان. طبيعة التسريب والشخصية المنسوب الخبر إليها تضعان الأمر في سياق متناسق مع موجة التهويل الجديدة التي أطلقها قادة العدو، بالتعاون مع الولايات المتحدة وجهات غربية، لمطالبة حزب الله بوقف جبهة الإسناد.وبمعزل عن «التقييم المهني» للجهات المعنية في المقاومة الإسلامية حول احتمالية الحرب الواسعة من عدمها، وجدت قيادة المقاومة ضرورة المباشرة في خطة من شقين، يتعلق الأول برفع مستوى الجاهزية العسكرية وإخراج خطط الحرب الكبرى من الأدراج ووضع أخرى جديدة ربطاً بمجريات الأشهر الثمانية الماضية، والثاني يتعلق بحملة الدبلوماسية العامة التي يقودها الأمين العام للحزب السيد حسن نصرالله، والتي كان خطاب أول من أمس أحد أشكالها، لجهة لفت انتباه العالم كله، وليس إسرائيل فقط، إلى أن قرار الحرب الشاملة مع لبنان يعني الذهاب إلى وضع لن يكون مطابقاً لتصوّر العدو وحماته.
وإذا كان جمهور المقاومة في لبنان وفلسطين والمنطقة وجد في خطاب نصرالله جواباً شافياً حول استعدادات المقاومة، فإن الجمهور في دولة الاحتلال يتصرف أصلاً على أساس أن ما ذاقه قسم من سكان شمال فلسطين المحتلة، سيتحول إلى طبق يومي لكل مستوطني الكيان، علماً أن القيادتين السياسية والعسكرية تعرفان أن المواجهة الشاملة مع المقاومة تحتاج إلى قوة كبيرة من جانب إسرائيل حتى تدّعي القدرة على تحقيق الهدف من الحرب، وهذا يعني أن إسرائيل، إن قرّرت الدخول في هذه المواجهة، فستكون أمام خيار إلزامي بالخضوع لقواعد اشتباك جديدة غير تلك القائمة حالياً، وهذا بحدّ ذاته عنصر المفاجأة الجديد، إذ تؤكد المقاومة في لبنان، بشكل علني، أن طريقة خوضها الحرب الشاملة لن تشبه أي معركة سبق أن خاضتها مع إسرائيل، وهذا يعني أن ما يبقى في الميدان هو اختبار القوة!
لكنّ خطاب نصرالله لم يكن موجّهاً إلى قادة ومستوطني العدو فقط، ولا إلى قواعد المقاومة فحسب، بل أيضاً إلى جميع اللاعبين الإقليميين والدوليين الذين يدعمون إسرائيل عسكرياً ومادياً وسياسياً. وقد صارح نصرالله «هذا العالم» بأن المواجهة الشاملة ستصيبه أيضاً، كون أدوات القتال من جانب المقاومة ستعمل في كل الأمكنة التي يستفيد منها العدو. وعندما قال إن البحر الأبيض المتوسط سيكون مُحرّماً على قوات الاحتلال وداعميها، فهو يعني أن على كل الدول المشاطئة للبحر الأبيض المتوسط أن تتصرف على أساس أنها معنيّة بالحرب. وحتى في إشارته إلى قبرص، فهو لم يكن يهدف فقط إلى ثني مسؤولي الجزيرة عن السير في برنامج تعاون خاص مع قوات الاحتلال، بل إلى التوضيح لهم، صراحة، بأنهم مسؤولون عن كل ما يجري على أرضهم، وأن المقاومة ليست معنيّة بالكلام الأخرق عن أن هناك قواعد تُعدّ أراضيَ أجنبية، مثل بعض القواعد البريطانية. وكل الرسائل التوضيحية التي وصلت من الجانب القبرصي إلى بيروت، أمس، لم تجب على السؤال المركزي: هل تعي قبرص خطورة معنى أن تتحول أراضيها إلى قواعد عمل لقوات الاحتلال؟
إذا كان القبارصة يفهمون الأمر، ويتحجّجون بعجزهم عن تغيير المعادلات، فهذا لا يعفيهم من المسؤولية. وهم يعرفون في تجربة الممر الإنساني البحري في غزة أن كل ما عرضوه من أفكار، أُطيح به تماماً عندما قرّرت الولايات المتحدة أن تدير المشروع وحدها وعبر جيشها، وليس في مقدور القبارصة الكذب على أنفسهم واللبنانيين وأيّ أحد آخر، بأن استخدام الأميركيين (والإسرائيليين) لمرفأ لارنكا كقاعدة انطلاق لبرنامج المساعدات، إنما تمّ وفق الخطة الأميركية – الإسرائيلية، واقتصر نصيب الجزيرة وأهلها على تشغيل عدد من سائقي الشاحنات التي تقرّر أن تنقل المساعدات بين السفن والرصيف البحري والشاطئ.
لا يمكن للقبارصة نفي النشاط العسكري للعدو، ولا نفي اجتماعات التنسيق الأمني مع الغرب في الجزيرة، ولا قبولهم تجيير بريطانيا قواعدها لإسرائيل


الأمر الآخر الذي لا يمكن للقبارصة التهرّب من مسؤوليتهم عنه، هو أنهم يعرفون جيداً أن وفود الاستخبارات العسكرية الأميركية والبريطانية والفرنسية والإسرائيلية عقدت وتعقد سلسلة كبيرة من الاجتماعات في قبرص لتنسيق التعاون في ما بينها. وهذا التعاون لا يتعلق بأمن أوروبا، بل بتوفير الدعم الأمني والاستخباراتي لجيش الاحتلال في معركته ضد المقاومة في غزة ولبنان، إضافة إلى توفير مظلة دفاع جوية سبق أن استُخدمت في وجه الرد الإيراني على قصف القنصلية الإيرانية في دمشق.
عملياً، تشكّل قبرص بوابة أوروبا بالنسبة إلى المقاومة في لبنان وفي فلسطين أيضاً، ومسؤولية الجزيرة هي مسؤولية الأوروبيين قبل أي أحد آخر. وإذا كانت القارة العجوز تئنّ من كلفة حرب أوكرانيا ونتائجها، فهي تعرف أنها ستئنّ أكثر مع مشاركتها في الحرب على غزة، لكن سيكون أنينها مختلفاً إن هي تورّطت أكثر في الحرب الإسرائيلية على لبنان. وهذا ما جعل خطاب نصرالله بشأن البحر المتوسط وقبرص يلقى الصدى الخاص عند الأوروبيين والأميركيين الذين أخذوا عبرة أولى من المواجهة البحرية، من خلال ما يجري في البحر الأحمر، ويعرفون جيداً أن الأسلحة الموجودة بيد المقاومة في لبنان، والمخصّصة للقتال في البحار، مختلفة كثيراً عما هو موجود في اليمن، فكيف ستكون الصورة لو تورّطوا في الحرب إلى جانب إسرائيل؟ علماً أن نصرالله نفسه سبق أن حذّر الأميركيين، منذ خطابه الأول بعد «طوفان الأقصى»، من أن المقاومة أعدّت العدّة للأساطيل الأميركية، مذكّراً إياهم بما واجهته قوات البحرية الأميركية في لبنان مطلع ثمانينيات القرن الماضي، يوم كانت المقاومة الإسلامية لا تزال حديثة الولادة.
طبول الحرب تُقرع أساساً، ولا حاجة أن يتكهّن أحد لأحد بما قد يحصل. لكن ما يُفترض بالعدو ورعاته إدراكه هو أن المعركة، إن وقعت، سيكون لها مشهد مختلف عما يجري في غزة. وإذا كان العدو يهدّدنا بدمار وموت كما يجري في غزة، فعليه أن يعرف أننا سنبدأ معركتنا معه بمشاهد لم يسبق له أن تخيّلها. وبقية الصورة متروكة - على ما يقول السيد – للميدان وأهله!