التدخل العسكري الإنساني من دون موافقة مجلس الأمن قضية معقدة ومثيرة للجدل في الأوساط الأكاديمية والسياسية على حد سواء ولم يُحسم أمره بعد. مجلس الأمن هو الهيئة الدولية المسؤولة عن الحفاظ على الأمن والسلم الدوليين، وموافقته مطلوبة في حال اتُخذ قرار باستخدام القوة العسكرية ضد أي دولة من الدول الأعضاء في الأمم المتحدة (راجع «القوس»، هل يمكن أن تُرضخ الأمم المتحدة إسرائيل؟، 15/6/2024). وقد عمدت بعض الدول إلى بلورة فكرة «المسؤولية عن الحماية»، ولكن رُبط أمر تنفيذها أيضاً بموافقة مجلس الأمن (راجع «القوس»، غزة مسؤولية اليمنيين القانونية، 17/2/2024). فالاتجاه الرسمي السائد، هو أنه لا يمكن استخدام القوة العسكرية إلا بموافقة مجلس الأمن تحت أي من المسميات. يستعرض هذا المقال بعض الطروحات التي تجيب عن السؤال الأساسي: مع عجز الأمم المتحدة بأجهزتها الرسمية، كيف يمكن وقف أعمال الإبادة التي ترتكبها إسرائيل في غزة؟ وهل يجيز القانون الدولي استخدام القوة العسكرية ضدها من دون إذن أو تفويض من مجلس الأمن؟
خرق القانون عند الضرورة
يؤيد التدخلَ العسكري الإنساني عددٌ من المنظرين القانونيين الدوليين. ويرى أصحاب هذا الرأي أن القانون الدولي يجب أن يستمر عموماً في حظر التدخل في غياب تفويض من مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة، لكن في حالة الظروف الاستثنائية، ينبغي التعامل مع التدخل من دون هذا الإذن على أنه مبرر أخلاقياً وسياسياً. وينظر بعض مؤيدي هذا الرأي إلى نظائره في القانون الجنائي المحلي، حيث يتم تبرير السلوك الإجرامي أو تخفيف العقوبة في ضوء ظروف الضرورة الاستثنائية، خصوصاً في الحالات التي يكون فيها مجلس الأمن غير قادر أو غير راغب في اتخاذ الإجراءات الكافية في الوقت المناسب للتعامل مع الأزمة. ويحثّ أولئك الأقل ثقة في استجابة مجلس الأمن على تطوير مبدأ التدخل الإنساني، على غرار الطريقة التي يُعمل بها الدفاع عن النفس كاستثناء للقاعدة التي تنص على أن مجلس الأمن وحده الذي يمكنه إعطاء الإذن باستخدام القوة القسرية. ويرى أنصار هذا الاتجاه، أن التدخل الإنساني في حالة الضرورة تحتفظ جميع الدول المشاركة فيه بحقوقها المتأصلة في الدفاع الشرعي والجماعي عن النفس وفقاً لميثاق الأمم المتحدة وواجب الالتزام بما يفرضه القانون الدولي الإنساني لناحية مقدار استخدام القوة وتناسبها لمنع جريمة الإبادة بالقوة. ويشترط هؤلاء على ألا تكون الدولة المتدخلة قد أسهمت في وجود حالة الضرورة، أي ألا تكون قد أسهمت في جريمة الإبادة اشتراكاً أو تحريضاً أو مساعدة.

اتفاقية منع الإبادة واستخدام القوة العسكرية «الفردية»
يرى المنظرون الدوليون أن أي تدخل عسكري يجب أن يكون وفقاً للقانون الدولي ومبادئ ميثاق الأمم المتحدة، وهو ما جعل البعض يتساءل عن إمكانية استخدام القوة العسكرية بموجب اتفاقية منع الإبادة والمعاقبة عليها. فالاتفاقية تلزم الأطراف باتخاذ تدابير لمنع الإبادة، ولكنها لا تنص صراحة على التدخل العسكري من قبلها. مع ذلك، تلزم المادة الأولى من الاتفاقية الدول كافة بمنع الإبادة، ولكن كيف؟ في حين يوجد نظام قضائي لمحاكمة مرتكبي جريمة الإبادة سواء على المستوى الوطني أو الدولي، إلا أن الاتفاقية تحتوي على ثغرات، وهي عدم النص على سبل وقف الإبادة ومعالجتها. وبالتالي، اتفاقية منع الإبادة والمعاقبة عليها تظهر اليوم على أنها غير كافية لمنع الإبادة كما يتم تطبيقها وتفسيرها حالياً.
لئن كان إنشاء الاتفاقية يمثل لحظة تاريخية للمجتمع الدولي، إلا أنها لم تنجح في تحقيق هدفها النهائي وهو منع ارتكاب جريمة الإبادة. وإذا كان لهذه الاتفاقية من معنى، وإذا كان الهدف من تبنيها استئصال جريمة الإبادة من العالم، فعلى المجتمع الدولي أن يعتمد تفسيراً للاتفاقية يقبل استخدام القوة لوقف هذه الأعمال، والسوابق لاستخدام القوة موجودة بالفعل. فالمسار الأكثر حكمة بدلاً من إنشاء نظام جديد أو تعديل آلية عمل مجلس الأمن، هو توضيح ماهية الالتزامات المترتبة على عاتق الدول الأطراف في الاتفاقية من أجل منع الإبادة فعلياً مع زيادة سرعة البت في تحديد أعمال الإبادة التي تندرج في نطاق الاتفاقية وكيفية التعامل معها ووضع المزيد من المسؤولية على الدول والتحالفات الدولية لاستخدام التدخل القوي لوقف الجريمة الدولية.

استخدام القوة العسكرية لوقف الإبادة... الملاذ الأخير
جاء تدخل «الناتو» العسكري في كوسوفو استجابة لحالة إنسانية وبناء على تقارير عن جرائم فظيعة كانت ترتكبها القوات اليوغوسلافية والصربية ضد الألبان في كوسوفو. بدأ التدخل العسكري في 24 آذار/ مارس 1999 واستمر حتى 10 حزيران / يونيو من العام نفسه. تحرك «الناتو» من دون إذن مجلس الأمن الذي كان منقسماً حول هذه المسألة. وكان الهدف من التدخل وقف الكارثة الإنسانية وإجبار الحكومة اليوغوسلافية على وقف الأعمال العدائية وسحب قواتها من كوسوفو. استمرت عمليات القصف إلى أن تم التوصل إلى اتفاق على انسحاب القوات اليوغوسلافية من كوسوفو وإنشاء بعثة الأمم المتحدة المؤقتة. كان التدخل مثيراً للجدل ولقي ردود فعل دولية متباينة وآثار تساؤلات شرعية حول استخدام القوة العسكرية من دون موافقة مجلس الأمن. لكنه كان رداً على فشل الجهود الديبلوماسية لإنهاء الجرائم الجسيمة بحق الألبان، واعتبر الملاذ الأخير لمنع وقوع المزيد من الضحايا. وتُظهر الإجراءات التي اتخذها الناتو حينها، أن العالم مستعد لتحرك عسكري لوقف الجرائم الجسيمة خصوصاً أن المتحدث الرسمي باسم الناتو آنذاك صرح بأن «غالبية كبيرة من أعضاء الجمعية العامة للأمم المتحدة ومجلس الأمن كانت مؤيدة بالفعل لتدخل الناتو. والمسألة ليست أنه لم تكن هناك موافقة من الأمم المتحدة، بل أنه لم تكن هناك موافقة روسية على التدخل». ولكن، لمواجهة الإبادة هل تحتاج القوة المتدخلة فعلاً إلى تفويض أو إذن؟
التدخل العسكري المباشر هو الطريقة الأكثر فعالية للحد من خطورة الإبادة الجماعية


تخليص العالم من الإبادة يتطلب ثلاثة متغيرات افتقرت إليها الجهود الأممية السابقة، وهي العمل السريع والولاية الواضحة وتعاون المجتمع الدولي. فالعمل يجب أن يكون سريعاً لأن طبيعة الإبادة تتسبب في ارتفاع عدد القتلى بسرعة، ثانياً يجب أن تكون الولاية واضحة لتستطيع القوات العسكرية تحديد الهدف من عمليتها العسكرية ومقدار القوة العسكرية المناسبة لوقف الإبادة ويكون لها هدف واضح يمكن تحقيقه. وأخيراً يتعين على المجتمع الدولي أن يدعم هذا الإجراء لتحقيق غايته وهو حماية حياة الإنسان. في دراسة أجريت على 36 حالة صُنفت أنها إبادة جماعية ووقعت بين 1955 إلى 1997، خلُصت إلى أن التدخل العسكري المباشر هو الطريقة الأكثر فعالية للحد من خطورة الإبادة الجماعية خصوصاً عندما يكون المرتكب «دولة». فليس من المرجح أن تستجيب تلك الدولة «الجانية» لمناشدات المجتمع الدولي ولا يمكن التعويل على حسها الإنساني والأخلاقي للالتزام بالقرارات الدولية والقانون الدولي، فهي تدير حرب إبادة عن سابق تصور وتصميم لتحقيق مصالحها السياسية التي تتعلق بالسيطرة والسلطة المطلقة.
---
الإبادة تشكل تهديداً للسلم الدولي
في تقريره السنوي إلى الجمعية العامة في تشرين الثاني/ نوفمبر عام 1999 بشأن سقوط سربرنيتشا، دعا كوفي عنان الأمين العام السابق للأمم المتحدة، الدول الأطراف في اتفاقية منع الإبادة إلى الانتقال من ثقافة رد الفعل إلى ثقافة المنع. وأكد «أن الإبادة الجماعية سواء أكانت وشيكة أم مستمرة تشكل دائماً تهديداً للسلام ويجب التعامل معها على هذا الأساس عبر عمل سياسي موحد وصارم، وفي الحالات القصوى عبر العمل العسكري. وهذا يعني أننا في حاجة ماسة إلى قواعد أساسية واضحة للتمييز بين التهديدات الحقيقية للإبادة الجماعية التي تتطلب رداً عسكرياً، وبين الحالات الأخرى حيث لا يكون استخدام القوة مشروعاً. علينا كمجتمع دولي التزام واضح بمنع الإبادة ولدينا القدرة بشكل جماعي على ذلك، ولكن السؤال هل لدينا الإرادة؟».