كما «خضّ» البلد بمن وما فيه، تثير الملفات القضائية للحاكم السابق لمصرف لبنان رياض سلامة «خضّة» في العدلية. فمنذ قرار قاضي التحقيق الأوّل بالإنابة السابق شربل أبو سمرا بترك سلامة، ثمّ صدور القرار الشهير للهيئة الاتهامية المناوبة في آب 2023، في يوم انتهاء مناوبتها، بفسخ قرار ترك سلامة وقبول الاستئناف المقدّم من رئيسة هيئة القضايا في وزارة العدل القاضي هيلانة اسكندر واستدعاء سلامة إلى جلسة تحقيق، يدور الملفّ في «دوامة» من الأخطاء القانونية، فيما الضغوط تتكاثر وعروض التنحي تنتقل من محكمة إلى أخرى، ومن قضاة إلى قضاة.والجديد ما جاء في قرار صادر عن محكمة الاستئناف في بيروت بغرفتها الثامنة الناظرة كهيئة اتهامية، والتي لم تكتف بعرض التنحّي، بل طلبت أمرين آخرين قلّما سبق لمحكمة أن فعلتهما بإجماع كلّ من اطّلع على القرار الذي حصلت «الأخبار» على نسخة منه. فقد طلبت المحكمة المؤلّفة من القضاة حبيب مزهر رئيساً وأدهم قانصو ونادين أبو علوان مستشارين، في قرارها الصادر في 30 أيار 2024، التالي:
1- إبلاغ وزير العدل القاضي هنري خوري بنسخة عن مضمون قرارها بعرض التنحي للوقوف على «تصرّفات رئيسة هيئة القضايا في وزارة العدل القاضي هيلانة اسكندر» لاتخاذ ما يراه مناسباً في هذا الشأن، وذلك لقيامها بممارسة «ضغوط معنوية ونفسية على الهيئة الاتهامية الحالية من خلال مراجعات متكرّرة ولجوجة أمام وزير العدل والتفتيش القضائي ومجلس القضاء الأعلى بهدف التأثير على الهيئة لاتخاذ قرار تعتقد أنّه يصبّ في مصلحة الدولة ويؤدي إلى السير بإجراءات التحقيق في الملفّ، علماً أنّ هذه الهيئة لم تأخذ الوقت الكافي لدراسة الملفّ وإيجاد الحلّ القانوني للسير بالدعوى أو وقف المحاكمة فيها».
وأشارت المحكمة إلى أنّه لم ينقض أكثر من أربعة أسابيع للمذاكرة والمداولة قبل اتخاذ القرار بهذا الشأن، علماً أنّ لديها في حال اختتام المحاكمة مهلة لا تتجاوز ستة أسابيع لإصدار الحكم، مع العلم أنّ هذا الملفّ لم يُحجز للبتّ فيه بموجب حكم نهائي، «لذا لا يعاب على هذه الهيئة أنها أخذت الوقت الكافي لدراسة الملفّ، وهو أمر مستغرب من قاضية كانت في وقت من الأوقات رئيسة محكمة، وهي الآن ممثّلة بصفتها مدّعية شخصية في الملفّ».
2- رأت المحكمة في ضوء القرار الصادر في الثالث من آب 2023 عن الهيئة الاتهامية المناوبة برئاسة القاضي ميراي ملاك وعضوية المستشارين فاطمة ماجد ومحمد شهاب «إحالة الملفّ إلى هيئة التفتيش القضائي ومجلس القضاء الأعلى لاتخاذ ما يرونه مناسباً في ضوء الصلاحيات المعطاة لهم».

ماذا في التفاصيل؟
في 29 كانون الثاني 2024 كُلّف القاضي حبيب مزهر بترؤس الهيئة الاتهامية. وفي اليوم التالي قدّمت الدولة اللبنانية ممثّلة بهيئة القضايا التي ترأسها اسكندر، طلباً إلى الرئيس الأول لمحكمة الاستئناف في بيروت القاضي حبيب رزق الله تمّ إيداعه في ملفّ الدعوى ضدّ سلامة. وفي 4 آذار 2024، قدّمت هيئة القضايا كتاباً إلى مزهر بصفته رئيساً للهيئة الاتهامية للبتّ في طلبها المقدّم إلى القاضي رزق الله، فبادر مزهر في اليوم التالي مباشرة «وخلافاً لما تدّعيه اسكندر إلى إصدار قرار بمفرده ومن دون المستشارتين كارلا شواح وغريس طايع اللتين أخبرتاه بوجود دعوى مخاصمة الدولة بوجههما، الأمر الذي أكّدتا عليه بموجب القرار الصادر عنهما بتاريخ 17 نيسان 2024». واعتبر مزهر في قراره الصادر في 5 آذار 2024 أنّ الهيئة الاتهامية التي يرأسها القاضي ماهر شعيتو لا تزال تضع يدها على ملفّ سلامة بصورة قانونية وأنّه لا ولاية له للنظر في هذا الملفّ، فما كان من الهيئة الاتهامية المؤلّفة من القضاة شعيتو رئيساً وجوزف بو سليمان ومحمد شهاب مستشارين أن قدّمت بتاريخ 14 آذار 2024 عرض تنحٍّ جديداً، غير أنّ محكمة الاستئناف في بيروت برئاسة القاضي أيمن عويدات أصدرت في 21 آذار 2024، قراراً ردّت فيه عرض تنحي هؤلاء القضاة، وعدم الأخذ بقرار القاضي مزهر المذكور آنفاً وتكليفه بترؤس الهيئة الاتهامية ما لم يتنحّ بدوره.
شكت محكمة الاستئناف من «تصرّفات» رئيسة هيئة القضايا في وزارة العدل


وما لبثت القاضي اسكندر أن طلبت في 2 أيّار 2024 البتّ في طلبيها السابقين المقدّمين بتاريخي 30 كانون الثاني 2024 و4 آذار 2024.
وأبدت محكمة الاستئناف برئاسة القاضي مزهر جملة ملاحظات على الشكل التالي:
1- إنّ الكتاب المؤرّخ في 30 كانون الثاني 2024 تمّ توريده في قلم القاضي رزق الله وليس في قلم الهيئة الاتهامية الحالية (برئاسة مزهر).
2- إنّ الدولة اللبنانية ممثّلة برئيسة هيئة القضايا في وزارة العدل اسكندر، «مارست ضغوطاً معنوية ونفسية على الهيئة الاتهامية الحالية من خلال مراجعات متكرّرة ولجوجة أمام وزير العدل والتفتيش القضائي ومجلس القضاء الأعلى بهدف التأثير على الهيئة لاتخاذ قرار تعتقد أنّه يصبّ في مصلحة الدولة ويؤدي إلى السير بإجراءات التحقيق في الملفّ، علماً أنّ هذه الهيئة لم تأخذ الوقت الكافي لدراسة الملفّ وإيجاد الحلّ القانوني للسير بالدعوى أو وقف المحاكمة فيها، حيث لم ينقض أكثر من أربعة أسابيع للمذاكرة والمداولة قبل اتخاذ القرار في هذا الشأن، وهذا مع الإشارة إلى أنّه، واستئناساً بأحكام المادة 498 من قانون أصول المحاكمات المدنية، على المحكمة إذا قرّرت اختتام المحاكمة أن تعيّن موعداً لإصدار الحكم في مهلة لا تتجاوز ستّة أسابيع، وفي حال عدم إصداره في الموعد المحدّد يتمّ تحديد موعد آخر يُبلّغ من الخصوم، مع الأخذ في الاعتبار أنّه في حالتنا الراهنة لم يحجز للبتّ بهذا الملفّ بموجب حكم نهائي، لذا لا يعاب على هذه الهيئة أنها أخذت الوقت الكافي لدراسة الملفّ، وهو أمر مستغرب من قاضية كانت في وقت من الأوقات رئيسة محكمة، وهي الآن ممثّلة بصفتها مدّعية شخصية في الملفّ».
3- أنّه يقتضي التمييز بين دعوى مداعاة الدولة بشأن المسؤولية الناجمة عن أعمال القضاة العدليين ودعوى ردّ القاضي. فالأولى تتعلّق غالباً بقرار صادر عن المحكمة ويسعى المدّعي من خلالها إلى إبطال الحكم أو الإجراء المطعون فيه، ما يمنع القاضي من القيام بأي عمل من أعمال وظيفته تجاه المدّعي وذلك بانتظار البتّ بإبطال القرار المشكو منه أو عدمه، بينما الثانية تتعلّق بشخص القاضي وتؤدي إلى وقف المحاكمة حكماً.
وخلصت المحكمة في قرارها إلى إبداء احترامها للقرارين الصادرين عن القاضي أيمن عويدات بتاريخَي 21 آذار و29 نيسان 2024، «إلا أنّها في ضوء الظروف التي رافقت هذا الملفّ، والقرار الصادر عنها بتاريخ 5 آذار 2024، والضغوط النفسية والمعنوية المتكرّرة التي مارستها الدولة اللبنانية ممثّلة برئيسة هيئة القضايا (هيلانة اسكندر) خلال فترة قصيرة، أثّرت على صفاء ذهن أعضائها لاتخاذ القرار المناسب، الأمر الذي يُشعِر الهيئة الاتهامية في حالة حرج للنظر في هذه الدعوى سنداً للمادة 122 من قانون أصول المحاكمات المدنية (عرض التنحّي)، لذلك جئنا بطلبنا هذا لعرض التنحّي عن النظر في هذه الدعوى للأسباب المُبيّنة أعلاه، وإبلاغ نسخة عن هذا القرار لمعالي وزير العدل للوقوف على التصرفات التي تقوم بها رئيسة هيئة القضايا في وزارة العدل لاتخاذ ما يراه مناسباً في هذا الشأن، وإيداع الملفّ الرئيس الأوّل الاستئنافي».