لا أعرف ما الذي كان الناس يتوقعونه. الدهشة تعلو الوجوه من جراء التوافق على تسمية مصطفى أديب رئيساً للحكومة. بعد أيام ستكون هناك تشكيلة حكومية تتوافق مع الأرضية السياسية للاتفاق على رئيسها. لن يكون هناك وزراء يثيرون حفيظة القوى الكبيرة، وسيحاولون الإتيان بشخصيات يعتقدون بأنها تناسب الرأي العام الغاضب. لكن النقاش الجدي الذي يريد الراعي الفرنسي حصوله يتعلق بمهام الحكومة. يتصرف الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون على أساس أن هناك إمكانية لفرض برنامج عمل على الطريقة الفرنسية؛ أي إن المجلس النيابي لن يكون عنصر عرقلة. وبدلاً من الحديث عن صلاحيات استثنائية، يكون الحديث عن ثقة مطلقة وكبيرة، لكنها محصورة بنقاط محددة، وهذا يتيح المجال أمام الحكومة للعمل على مهام مختارة وضمن جدول زمني محدد... أما النتائج، فما علينا جميعاً إلا الانتظار..السؤال المحيّر حول حيرة الناس، سببه أن كثيرين في لبنان يتمثلون بجحا. يطلقون العنان لفكرة وكذبة، ثم يتصرفون على أساس أنها حقيقة. مثل النطق باسم الشعب اللبناني ومعرفة ميوله والقول إنه يريد كذا وكذا، ومن ثم يخرج علينا هؤلاء، عبر شاشات ومنابر، ويتصرفون على أساس أنهم يمثلون غالبية الرأي العام. لكن ما يحصل هو أنه عندما تنعقد طاولة البحث، يجلس من بأيديهم القرار، والأنكى أنهم يتصرفون على أساس أن هذا «الناطق» غير موجود أصلاً. ولا يقتصر ذلك على الداخل. فحتى الخارج المتدخل لـ«إنقاذنا»، لا يتصرف بطريقة مختلفة. صحيح أن ماكرون وديفيد هيل وغيرهما يلتقون بممثلي المجتمع المدني والهيئات الأهلية ومندوبين عن الثوار و... لكنهم يستمعون اليهم فقط، كوسيط «روحاني» يسجل الملاحظات. وعندما يعود هذا الخارج الى الطاولة، يبدأ بالبحث عن سبل انتزاع موافقات من أركان المنظومة الحاكمة؛ أي إن الخارج يعود الى حيث يوجد القرار والقدرة على تحويل الفكرة الى خطة عمل... هذه حقيقة قاسية مع الأسف!
ما يحصل، الآن في لبنان، قد يكون مناسبة لإعادة النظر في الشعارات التغييرية عند المعترضين. لا أعرف إذا كان صار واضحاً للجميع أن المشكلة لم تعد في سلطة أو إدارة أو أشخاص، بل هي في النظام. وكل عاقل لا يحتاج الى من يدله على برنامج عمل واقعي يدار بنفَس طويل جداً، وهدفه الفعلي تغيير جوهري في النظام القائم. وإذا كان السياسيون يكذبون حينما يتحدثون عن رغبتهم في إقامة دولة مدنية، فما على الجمهور إلا أن يلحق بهم الى باب دارهم، وأن يرفع شعاراً واضحاً بالعمل لتغيير جدي في النظام. تغيير لا يقتصر على جانب واحد، مثل طبيعة التمثيل السياسي، بل يشتمل على ما هو أهم، أي النظام الاقتصادي والمالي الحاكم، وتالياً طبيعة القوانين التي تدير هذه القطاعات. هذا هو جوهر الأزمة. ومتى تمّ التوصل الى فكرة تحظى بموافقة غالبية لبنانية معتبرة، يمكن لهذا الهيكل العظمي الجديد أن يكون جاهزاً لإلباسه ما تيسر من الأثواب السياسية ومتمماتها الخاصة بالحسابات والطوائف والأقليات وغير ذلك.
البعض يعتقد بأن المسألة مرتبطة بالسلاح. هم، هنا، يرفضون الإقرار بأن مشكلة النظام الحالي ليست في كونه لا يوفر عدالة اجتماعية وسياسية للناس، بل أصل مشكلته في أنه لا يقدم شرحاً عملانياً لمعنى السيادة، ولا هو وفّر يوماً هوية وطنية يمكن للناس أن تدافع عنها مجتمعة. ها هم أبناء لبنان الكبير يعيشون في حنين فارغ. وجلّ ما يريدون هو عودة الاستعمار. هؤلاء لا يمكنهم تقديم حل لمشكلة السيادة. ولكن عندما يكون لدينا نظام واضح، وعاقل، سيكون عنوان السيادة والدفاع الوطني بنداً رئيساً، وساعتها سنكون أمام الاستحقاق الكبير حول مصير الأدوات العسكرية والأمنية في البلاد.
الذين يحتجّون فعلياً على الفساد والاضطهاد ونقص الحقوق، والذين انتشروا مبعثرين في الشوارع والساحات أو في المنازل، أمامهم اليوم فرصة حقيقية لإعادة تنظيم أمورهم. لا ضير في الإقرار بأن تجربة 17 تشرين فشلت في أن تكون عنواناً جامعاً للتغيير. ويجب على هؤلاء الإقرار - وليس القبول - بحقيقة أن الكتل الاجتماعية للقوى الطائفية تتفوّق عليهم. ومن لا يريد المراجعة، ليس سوى مكابر جديد، يسعى فعلياً الى احتلال موقع في السلطة النافذة. وهذه السلطة لا تقتصر اليوم فقط على من يحتلون المقاعد النيابية والوزارية، بل أيضاً من يحتل مقعداً على المنبر العام، ويتصرف على أنه يتمتع بشرعية شعبية، حتى ولو لم تخرج من صناديق الاقتراع.
من كان يتوهم أن الخارج مهتم بإصلاح النظام جاءه الجواب من خلال تركيبة الحكومة، أما خطر المنظمات غير الحكومية فصار مطابقاً لخطر السلطة الحاكمة


أمام اللبنانيين فرصة لفهم أن التغيير لا يعني الهدم، وأن إعادة التأسيس لا تعني الهدم أيضاً، وأن الثورة على النظام وممارسة حتى العنف ضد رموزه لا تعنيان الهدم. والهدم، هنا، ليس مسموحاً بأن يطال فكرة الدولة. وإذا كانت انتفاضة 17 تشرين قد أسقطت الهيبة والفعالية عن السلطة السياسية، وجاء انفجار المرفأ ليسقط الهيبة والفعالية عن الإدارة اللبنانية، فإن ما يجري اليوم هو محاولة لإسقاط فكرة الدولة نهائياً. وما الانتشار الفطري والمشبوه لكل ما يسمى جمعيات أهلية ومنظمات غير حكومية في الشوارع، سوى عمل عصابات تستهدف القضاء على فكرة الدولة. كل الذين أرادوا إسقاط السلطة من دون بديل، هم أنفسهم الذين أرادوا ثورة من دون قيادة، وهم أنفسهم الذين يرفضون تولي الادارة العامة للدولة ملف الأضرار في بيروت، وهم أنفسهم الذين بدأوا يرفضون التعامل مع جميع مؤسسات الدولة، وهؤلاء هم المرتزقة المنتشرون باسم المنظمات غير الحكومية والجمعيات الأهلية. وهؤلاء، برفضهم لفكرة الدولة، يبررون لأنفسهم كل أعمال السرقة التي يقومون بها، من تلقّي الأموال من دون رقيب، الى إنفاقها من دون حسيب، الى رفض التصريح عنها للجهات الرسمية، الى عدم التنسيق وترك الأمور فالتة، وكأننا في زمن الفوضى الشاملة. هؤلاء هم المجرمون الجدد الذين يعملون عند خارج يهتم فقط بتدمير الدولة لا بإسقاط السلطة السياسية. وهذا الخارج فعل الأمر نفسه في مصر وسوريا والعراق واليمن وليبيا وفلسطين، وهو يريد ذلك في لبنان، لأنه يتوهم أنه في هذه الحالة يمكنه احتلال مساحة من ناس لبنان وأرضه لتصفية حسابه الوحيد مع المقاومة...
ليس أمام العاقلين سوى التمسك برفضهم لهذه السلطة، لكن الأساس في عملهم هو الذهاب سريعاً نحو اقتراح نظام سياسي واقتصادي واجتماعي ومالي جديد. وغير ذلك، لن ينتح سوى مزيد من هذه الحكومات.

اشترك في «الأخبار» على يوتيوب هنا