الوزير محمد شقير سيد الساحات. في فترة وجيزة من تبوئه منصبه وزيراً للاتصالات، طبع اسمه في سجل «الخالدين». «إنجازاته» كانت فريدة. تطورت مع الوقت. من إلزام الشركتين، بالقوة، التعاقد مع شركة خاصة لتقديم خدمات الرومينغ، خلافاً للمصلحة العامة، إلى شراء مبنى لـ«تاتش» بما يفوق 100 مليون دولار. ما بينهما، وما بعدهما، أكثر من أن يعدّ، لكن يبقى وضع رسم على «واتساب» «معجزته» الفعلية. صحيح أن مجلس الوزراء وافق على اقتراحه فرض هذا الرسم، لكن براءة الاختراع ظلّت له.بعد تفجيره «ثورة واتساب»، تفرّغ شقير للتنقل بين شاشات التلفزيون معلناً التراجع عن القرار. رضخ لضغط الشارع لكن ذلك لم يكن كافياً. بعد استقالة الحكومة، انزوى لفترة وجيزة، بعدما تحوّل إلى الوزير الاكثر استفزازاً للناس، وشهد محيط مكان إقامته عدداً من الاعتصامات أبقته حبيس منزله. لكن اليأس لا يعرف طريقه إلى قلب شقير. ظهر مجدداً، ليستكمل إنجازاته. ومقابل المطالب الشعبية بتسعير خدمات الخلوي بالليرة، أعلن أن الأمر ليس من صلاحياته، مفضلاً رمي الحمل على مجلس الوزراء. فقال إن «عملية تسعير بطاقات تشريج خطوط الخلوي بالدولار الأميركي، أمر أقرته الحكومات منذ سنوات، ووزير الاتصالات لا يملك صلاحية اتخاذ قرار بتغييره بشكل منفرد، بل يحتاج إلى مرسوم يصدر عن مجلس الوزراء».

(مروان طحطح)

مرة جديدة، وتحت ضغط الانتفاضة المستمرة، لم يتأخر شقير في التراجع، معلناً عن أسعار بطاقات الدفع المسبق بالليرة. كيف صار ما كان مستحيلاً ممكناً؟ هل قرر وزير الاتصالات مخالفة القانون، نزولاً عند رغبة الجماهير المنتفضة؟
بحسب ما كشفه الرئيس السابق لأوجيرو عبد المنعم يوسف، عبر «الجديد»، فإن العقد مع شركتي الخلوي لا ينص على التسعير بالدولار في أي من بنوده. بل على العكس، فالمادة 14 منه تفيد أن «أسعار الخدمات والايرادات المُحصَّلة ليست بالدولار، وكل ما يُقال عن أن فواتير الهاتف الخلوي يجب أن تكون بالدولار غير صحيح». تلك المعلومات المفاجئة، استفزّت شقير، فردّ عليها بالسياسة حيناً وبالسعي إلى تحميل يوسف مسؤولية عدم الاعتراض سابقاً، قبل أن ينتقل الرد إلى بنود العقد فيأخذ منها ما يناسب وجهة نظره. لكن أهم ما قاله في رده كان «ان هدف الوزير شقير الدائم هو الحفاظ على المال العام والمرافق التابعة للوزارة وعلى قيمتها السوقية». وهذا يذكّر عملياً بأن شقير هو وزير الخصخصة وهو لا ينظر إلى مؤسسات الدولة، سوى من زاوية قيمتها السوقية، لا قيمة خدماتها للمواطنين.
بالعودة إلى العقد، ولا سيما الفقرة الرابعة من المادة 14 التي ذكرها يوسف، نص واضح يشير إلى أنه يُفترض بالشركة التي تدير الخلوي أن تدفع المداخيل المحصّلة للدولة اللبنانية بالدولار الأميركي على أنه في حال انخفضت قيمة هذه المداخيل نتيجة سعر صرف غير مؤات لليرة اللبنانية، فإنه لا تترتب أي مسؤولية على عاتق الشركتين. وفي هذا إقرار واضح بأن تحصيل الاشتراكات يتم بالليرة.
كذلك فإن المادة 40 من العقد تنص بوضوح على أنه، إضافة إلى كل ما ينشأ عنه ويتصل به، يتم التعامل معه وفق الأنظمة اللبنانية. وتلك الأنظمة، ولا سيما قانون النقد والتسليف وقانون حماية المستهلك، لا تلحظ تسعير الخدمات والسلع المنتجة في لبنان والمستهلكة في لبنان بالليرة اللبنانية.
عقد الخلوي ينص على التسعير بالليرة لا بالدولار


لكن كيف بدأت مسألة التسعير بالدولار؟ كانت البداية مع إنشاء شبكتي الخلوي من قبل «سيليس» و«ليبانسيل» اللتين اعتمدتا الدولار كعملة للتحصيل، بحجة ضمان الاستثمار، لكن بعد أن تسلّمت الدولة القطاع في العام 2003، بقي الأمر على ما هو عليه، حماية للقيمة السوقية للشبكتين، وبخلاف ما ينص عليه القانون. إلا أن ذلك لم يشكل ضغطاً على الاقتصاد، خاصة في ظل استقرار التدفقات من العملة الصعبة وفي ظل عدم وجود أكثر من سعر للدولار. لكن تغير الأوضاع بدءاً من النصف الثاني من العام الحالي، ودخول البلد في أزمة شح الدولارات، أضاء على ضرر استمرار تسعير الخلوي بالدولار. فالقطاع الذي يدرّ شهرياً ما بين 80 و120 مليون دولار للخزينة ساهم في زيادة هذا الشح، من خلال سحب هذه الأموال من السوق، وحرمانها بالتالي للاقتصاد. ولأن هذه الأموال لم تأت من الخارج، فإن مصدرها كان مصرف لبنان والمصارف التجارية التي تبيع الدولار للسوق بسعر وسطي 1510 ليرات، بينما يضطر المشتركون، لتسديد فواتيرهم، إلى شراء الدولارات من السوق بسعر وسطي يبلغ 1700 ليرة، أي بسعر أعلى من السعر المحدد من مصرف لبنان بنحو 190 ليرة. وعليه، فإن الاقتصاد يخسر من جرّاء تسعير الخلوي بالدولار نحو 20 مليار ليرة شهرياً، أو ما يعادل 50 مليون دولار منذ تموز حتى اليوم، من دون أي مبررّ، بل لمجرد أن وزارة الاتصالات، تظنّ أن قطاع الاتصالات يدخّل أموالاً صعبة للخزينة. وهو ليس الواقع حالياً، بعد أن صارت الدولارات تُحوّل من جيب المصرف اليمين إلى جيبه اليسار، بعد أن تخرج الأموال منه وتدور في السوق، مساهمة في خسارة الاقتصاد نحو 20 مليار ليرة شهرياً، ثم تعود إليه.
اللافت أن وزير الاقتصاد، في معرض ترحيبه بقرار شقير، أعلن أنه سبق أن قدم طلبين لوزارة الاتصالات يطلب فيهما إلزام شركتي الخلوي بتسعير وبيع بطاقات التشريج بالليرة اللبنانيّة وفق ما تنصّ عليه القوانين اللبنانيّة، لكنها لم ترد. وقد أشار الوزير بطيش إلى أن «الاعذار التي ساهمت في تأخير التطبيق سابقاً هي أعذار واهية، فلا مرسوم أو قرار أو اتفاق يعلو على ​الدستور​ والقانون».
وأمس انضم نادي قضاة لبنان إلى المعترضين على تسعير خدمات الخلوي بالدولار، فتقدم من مديرية حماية المستهلك في وزارة الاقتصاد بشكوى طلب فيها اتخاذ الاجراءات الضرورية بحق شركتي الخلوي اللتين استوفيتا سابقاً، وتستوفيان راهناً، من المستهلكين الفواتير بالدولار الأميركي (الخطوط الثابتة)، وبالليرة اللبنانية، حسب سعر الصرف للبطاقات مسبقة الدفع.
وبعد أن قدم النادي مطالعة قانونية فنّد فيها مواد عقد إدارة الخلوي، خلص إلى أن:
- وزير الاتصالات هو المرجع الصالح للتسعير وليس الشركتان أو أي جهة أخرى.
- التسعير في ما يتعلق بفواتير الخلوي الثابت وبثمن البطاقات المسبقة الدفع لا بد أن يكون بالليرة اللبنانية.