منذ أوّل أيّام العدوان المسعور على غزّة، ظهر الفتى عبّود، كطفل فيه حلم المراسل، فشارك حلمه هذا بأن يكون مراسلاً ميدانياً للموت الذي بدأ بمحاصرته في شمال غزّة. انتشرت مقاطع عبّود وهو يصف الحال في ظلّ الحرب وصوت الطيّارات الذي لا ينقطع أبداً، وكان وصف «الوضع آيس كوفي عالآخر» الذي يُنهي به تقريره كالنسيم الذي يُداعِب الشعر في يوم ربيعي جميل. ضحكة عبّود كانت منّا، تخصّنا، تنتشل الشوك الذي غُرس في أجسادنا من ويلات الحرب، نشعُر أنّ بإمكانها كسر هذا القهر الذي خيّم علينا منذ أشهر. جميع من شاهده، تعلّق به، انتظره وخاف عليه من أن تهزمه الحرب. وعندما كان ينقطع عن تحميل المقاطع على صفحته، كانت القلوب ترتجف خوفاً من أن يطاله مكروه. نشعر أن العالم توقّف، ويردّ الزمن إلى حركته وجه هذا الفتى وهو يعود ليقول: «عُدنا لكم من شمال قطاع غزة المحاصر في اليوم «الكذا» من الحرب».
شيء ما في هذا الوجه يُعيد إلى القلب توازنه. شيء ما في صوت عبود، يُقنعك بأنّ للحرية مكاناً وأن شعبنا لا بُدّ أن ينتصر. شيء ما في عبّود يُرسّخ الأفكار في الدماغ. تجربة فريدة لشاب صغير يعيش ويلات بإمكانها أن تكسر أقوى القلوب وأشدّ الأرواح رسوخاً، لكنهُ يأبى لهذا الصوت أن تقمعه الطائرة ووحشية الجنود وثقل الدبابات.
فتى لم يعرف من الحياة غير الحصار والحرب، ليس كباقي الفتيان في سنّه. ليس ممّن سمحت لهم الفرصة بأن يكملوا تعليمهم أو أن يكون من عائلة تأخذ بيده ليصير بارداً كسولاً، بل ابن هذه الأرض وهذه العائلات التي تعرف الأصالة وتتنفّس هواءً بسيطاً.
لكلّ من عايش وراقب عبّود في رحلته على الهواء، مراسلنا الميداني اللطيف، الفتى الذي يُراقِب الحرب بعيون صغيرة وقلبٍ كبير وطاقة غير منقطعة... جميع من عايشه وراقبه منذ بداية الحرب، لا بُدّ أن يرى كيف تتقلّص تلك المساحة من اللمعان في عينيه. شيئاً فشيئاً، بدأ هذا الفتى يكبُر، شيئاً فشيئاً بدأ يشيخ وتظهر الجراح في تقاسيم وجهه. ليست تلك الجراح المرئية، بل تلك التي نشعر بها في حرارة وجه بدأت تخبو. ليست كلّ الجراح مرئية، بل إنّ أصعب الجراح هي تلك التي لا دماء تسيل منها ولا ندوب تظهر بفعلها.
عبّود، الذي شاهد جثثاً تسقط وسمع قصصاً يشيب لها الرأس، شاهد جثثاً متحلّلة ومحترقة، سمع الطائرات ورآها وهي تنزل بأطنان من القذائف الحارقة لأشهر فوق البيوت والأجساد والأفكار والأحلام، رأى الدبابات المجنزرة وهي تصعد تلال أحلامه... حوصِر وجاع وعطش وخاف وسمع صرخات الرُعب البشري وهي تنطلق من خيام النزوح المُحترقة، مات لهُ أصحاب وأفراد من العائلة، ماتت له قصص وأحلام وذكريات، عبّود الذي عايش كُلّ أنواع الجريمة التي يمكن أن يرتكبها إنسان وقد ارتكبها جيش المسعورين الإسرائيلي، كيف لا يشيخ؟ كيف لا نشعر بحرارة «الوضع آيس كوفي عالآخر» وهي تخبو وتنطلق من بين شفتيه في كُلّ مرّة أبطأ من سابقتها؟ سترى بعينيك ما تعنيه ويلات الحرب في هذا الوجه التي بدأ يضمر والعيون الغائرة التي لا تلقي بالاً للحياة ولا يعنيها شيء على الإطلاق، صامدة قوية لكنها مجروحة جرحاً لن يلتئم أبداً.
ليس هذا الفتى عادياً، والجميع يعرف ذلك، ونحن من موقع المشاهدة له، شعرنا بذلك وعرفناه، ضحكته تنجّينا، عندما يعود بعد انقطاع ونسمع صوته «عدنا لكم من شمال غزة الحاصر»، نشعر أنّ للخير مكاناً متبقّياً في هذا العالم ويكون حتماً في تعويض ما، يتلقاه عبّود في حياته المستقبلية. لكننا نعرف، أن الذي حصل كبير جداً، أكبر مما نتخيّل، حتى وقفة عبّود تغيّرت، أمال كتفيه إلى الأسفل قليلاً من حمل ما رأى، واليدان أيضاً تضخمتا كثيراً كأنه من عمّال المناجم.
ضحكته كانت منّا، تخصّنا، تنتشل الشوك الذي غُرس في أجسادنا من ويلات الحرب


عبود، واحد من آلاف القصص الشبيهة، الذي هدّها تعب الحرب وأضناها السهر والخوف والقلق والوحشة. لا يُمكننا التفكير بمبلغ الوحشة التي قد يكون فيها عندما يجد نفسه وحيداً. أيّ صحاري تلك التي تتوسّع في خياله ويتوه فيها، في عالم حقير ميّت، لا يعيش فيه طفل حياةً طبيعية؟ نموذج عبود وإحراق روحه وهو حيّ، هذا ما يدافع عنه العالم؟ هذا هو العالم المطلوب منا أن نستسيغه حيث لا يعيش الأطفال حياة طبيعية وعادية، بل يركضون هرباً من دبابة أو طائرة وتحرقهم حرارة خيام النزوح ويبلعهم بحر مراكب الهروب. لعبّود نعتذر لك بالنيابة عن العالم الحقير هذا.