ارتهان الإعلام الغربي لإسرائيل وللسردية الصهيونية لا يعرف حدوداً. كل شيء مباح في سبيل شيطنة الفلسطينيين وتجريدهم من إنسانيتهم في مقابل تجميل رواية العدوّ، وتصوير ما يحدث في الأراضي المحتلة على أنّه «نزاع» بين خير مطلق وشر مطلق، بين جلادين «بالفطرة يولدون إرهابيين»، و«ضحايا عزّل مضطهدين» منذ فجر التاريخ. ولأنّك تولد إرهابياً تستحق القتل، لا يمكن أن تكون طفلاً. هكذا، ميّز الإعلام الغربي الفلسطينيين على أنّهم الشعب الوحيد في العالم الذي يخرج من رحم أمّه ناضجاً. رغم أن الموت لا يفرق بين البشر، إلا أن موت طفل لأيّ سبب كان له وقع خاص ومرارة مغايرة. لذلك، يتعيّن تجنّب اتهام إسرائيل بقتل الأطفال، ولو اقتضى الأمر حذف الطفولة من أساسها. تماماً كأفلام الخيال العلمي، استحالت وسائل الإعلام الغربية مختبرات تُعدَّل فيها أعمار البشر وينقل فيها الإنسان من مرحلة عمرية إلى أخرى بقرار صحافي ومذيع، أو مدير تحرير متصهين.

(غيتي)

أحدث شناعات آلة الإعلام المتأسرلة تقرير لـ «سكاي نيوز» حول استشهاد ثلاثة أشخاص، من بينهم طفلة عمرها أربع سنوات برصاص الشرطة الإسرائيلية على حاجز «بيت إكسا» العسكري، شمال غربي مدينة القدس المحتلة في السابع من كانون الثاني (يناير) الحالي. فقد أطلقت القوات الإسرائيلية النار باتجاه سيارتين أثناء مرورهما عبر الحاجز، ما أدى إلى إصابة رجل وزوجته في سيارتهما بذريعة «محاولتهما تنفيذ عملية دهس»، بينما توفيت طفلة كانت موجودة في مركبة أخرى عن طريق الخطأ.
وقد وصف تقرير المحطة البريطانية الطفلة الشهيدة رقية أحمد عودة أبو دهوك جهالين بـ young lady (شابة)، رغم الإشارة إلى أنّ «عمرها 3 أو 4 سنوات». أما عن كيفية استشهادها، فقد اعتبر التقرير أنّ رصاصة طائشة وجدت طريقها «مصادفةً» إلى داخل الشاحنة، بعدما قتلت الشرطة الرجل وزوجته في السيارة المجاورة. ومن شأن استخدام كلمة «مصادفةً» عوضاً عن «عن طريق الخطأ» لتبرير إجرام الشرطة الإسرائيلية، ما يجهّل الفاعل أكثر ويرمي بالمسؤولية نحو القدر أو الفيزياء! أما الرصاصة، فلم تصوّب أو تُطلق، إنّما بسحر ساحر ضلت طريقها، كما لو أنّها كانت تتنزّه من تلقاء نفسها.
انحياز الإعلام البريطاني ليس جديداً، والشواهد لا تعد ولا تحصى. فقد وجد بحث أجرته المنصة الإعلامية العالميّة المستقلة Open Democracy حول التغطية النهارية لـ «هيئة الإذاعة البريطانية»، أنّه في الشهر الذي تلا عملية «طوفان الأقصى» (تحديداً من 7 تشرين الأوّل/ أكتوبر حتى 4 تشرين الثاني/ نوفمبر)، استخدم صحافيو BBC كلمات «القتل» و«القاتل» و«القتل الجماعي» و«القتل الوحشي» و«القتل بلا رحمة» 52 مرة للإشارة إلى الوفيات الإسرائيلية، من دون أن ينسحب الأمر على الشهداء في المقلب الآخر.
اكتفت «ذا أتلانتيك» بذكر عدد الأسرى الفلسطينيين من دون تفصيل

ويمكن رصد النمط نفسه في ما يتعلق بـ «المذبحة» و«المذبحة الوحشية» و«المذبحة المروعة» (35 مرة للوفيات الإسرائيلية في مقابل ولا مرّة للوفيات الفلسطينية)، و«الفظائع» و«الفظائع المروعة» (22 مرة للوفيات الإسرائيلية، ومرة واحدة للوفيات الفلسطينية)، و«الذبح» (5 مرات للوفيات الإسرائيلية، ولا مرّة لتلك الفلسطينية). علماً أنّ محاولات وسائل إعلام عدة عالميّة لتجريد الفلسطينيين من الطفولة لم تتوقف منذ عملية «طوفان الأقصى»، وهو ما برز بشكل فاقع أثناء تغطية اتفاق تبادل الأسرى بين «حماس» والاحتلال التي تمّ التوصّل إليه في 22 تشرين الثاني (نوفمبر) المنصرم. حرصت مجلة «ذا أتلانتيك» الأميركية على الإشارة إلى أنّ الأسرى الإسرائيليين يتوزعون ما بين 30 طفلاً و20 سيدة، بينما اكتفت بذكر عدد الأسرى الفلسطينيين عموماً من دون تفصيل. وفي ذلك الوقت، اختارت صحيفة «واشنطن بوست» توصيف الأطفال الفلسطينيين بـ «المراهقين»، فيما استخدمت في النص نفسه كلمة «الأطفال» للإشارة إلى الأسرى الإسرائيليين. من ناحيتها، اعتمدت «نيويورك تايمز» وصف «قاصرين» للحديث عن الأسرى الفلسطينيين في مقابل «أطفال» للأسرى الإسرائيليين.
تجنّب الإشارة إلى أنّ مقاربة الأطفال الفلسطينيين انسحبت على جهات إعلامية أخرى، من ضمنها BBC وجريدة «ذا تلغراف» البريطانية، إلى جانب محطات تلفزة غربية عدّة. وبطبيعة الحال، عمدت وسائل إعلام وصحف كثيرة إلى أنسنة الأسرى الإسرائيليين عبر ذكر وضعهم الصحي وأعمارهم والإشارة إلى «معاناة» أسرهم، لتكتفي بذكر مجمل الأسرى الفلسطينيين كما لو أنّ لا صفات محدّدة تميّزهم كبشر.