قلنا في المقال السابق إنّ الولايات المتّحدة مهتمّةٌ باليهود الأوروبيين حصراً وليس بعموم اليهود، فهم أَمّنوا لها إجابة عن سؤال ألمانيا بدايةً وأوروبا لاحقاً؛ إجابة تمكّنها (بدلاً من المساعي السابقة للاستقلال عن أوروبا وخلْق هوية مستقلّة للقارّة الأميركية ككلّ) مِن تبنّي أوروبا وإخضاعها وإعادة تشكيلها وإفراغها من كوامنها مِن خلال جهاز فائض إنتاج دراسات الهولوكوست والعداء للساميّة. حتى لو أَظهر السفاردي استعداداً لخدمة الإمبريالية الأميركية أكثر مِن الأشكينازي، فإنّ ذلك لن يَجعل واشنطن أكثر عنايةً به، إذ ليس هناك سؤالٌ عربي مركزي يَشغل هوية الولايات المتّحدة، وبالتالي لن يَتشكّل «العربي الوحيد الجيّد هو العربي اليهودي» على طريقة «الأوروبي الوحيد الجيّد هو الأوروبي اليهودي»، على الأقلّ في المدى المنظور (هنا نَستخدم عبارةً موحّدة للسفارديين والمزراحيين بناءً على تصنيف حنا آرندت التي وَضعت الهرمية الحضارية: اليهود الألمان ثم الغاليسيون ثم الباقون «الذين يُشبهون العرب»).
أدّى ذلك إلى أن يكون السفاردي مدروساً في الولايات المتحدة بشكل ناقص (underresearched) نسبةً إلى حجم الدراسات المتعلّقة بالأشكيناز (overresearched). النتيجة هي أنّ الباحث السفاردي لا يجد أمامه مِن احتمالاتٍ سوى التشبُّه بدراسات الأشكيناز؛ أن يقوم بنسْخ دراسات الهولوكوست والعداء للساميّة وإجراء دراساتٍ تُثبِت أنهم مرّوا بتجارب شبيهة في العالم العربي والإسلامي (هم الذين أَنقذتْهم سفن العثمانيين مِن إسبانيا محاكم التفتيش وأوطنوهم في بلادهم). فرغم تصوير الجامعة كمكانٍ للحرّية الفكرية، إلا أنّ هناك قوالب للأبحاث يَصعب على المهمَّشين تجاوزها. مثلاً، الموجة الأولى نَكتب فيها أبحاثاً نسويّة في العالم العربي مع نسْخ الأبحاث النسويّة في الولايات المتحدة، ثم موجةٌ -بعد عشر سنواتٍ مِن الكتابات حول «فكّ الاستعمار» (decolonizing)- عن الأبحاث النسوية التي تُجرى في الأطراف (تُكتَب في جامعات الولايات المتحدة وليس في جامعاتنا). وهكذا في كلّ مجالٍ جديد تبتدعه جامعات الحاضرة الإمبريالية (حالياً دراسات الإعاقة ونقد القابليانية «ableism» هي المجال الأكثر «سخونةً» في الجامعات الأميركية ويتوقّع وصولها خلال السنوات المقبلة إلى بلادنا). والقوالب هذه هي جزءٌ مِن عملية قَوْد وعزْل فئات الباحثين في الحاضرة الإمبريالية؛ دفْع العرب الذين يَدرسون الإنسانيات في جامعات الولايات المتحدة إلى كتابة أطروحات تتعلّق بالعرب (بدلاً مِن الكتابة عن الولايات المتّحدة نفسها أو عن أميركا اللاتينية أو الصين مثلاً)، والنساء لكتابة أطروحات تتعلّق بالنساء، فيما يَكتب الرجل الإنكليزي الأميركي البروتستانتي أطروحاتٍ عنا جميعاً.
السابع مِن أكتوبر هو نتيجة الدور الأميركي المرسوم لإسرائيل: بورنوغرافيا تقنيّات التجسّس بدلاً مِن السياسة


المفارقة هي أن السفاردي، ورغم مسعاه الحثيث لكي يصبح أشكينازياً، إلا أنّ معظم الإنتاج غير الديني عنه في الولايات المتحدة (على نقصه) يَأتي ضمن الدراسات العربية والشرق أوسطية. لذلك، فإنّ تَعريفك لنفسك (ركيزة الأوهام الليبرالية) لا قيمة له، المهمّ هو أن تَستكشف في أي الخانات يصنّفك النظام المعرفي الإمبريالي وكيف لك أن تقاوم بناءً على ذلك. يَعمد الأكاديمي السفاردي إلى المبالغة والتضخيم اللاسياقي لدلالات أي حدثٍ أو لفظٍ في التاريخ العربي والإسلامي، هكذا يُفهَم إيتمار بن غفير، وقبله ييغال عمير، وعداؤهما المسرحي للعرب (السفارديون في إسرائيل هم عصب الأحزاب المسمّاة هناك فاشيّة، فكلّهم فاشيّون، ونادراً ما ينشطون في منظّمات السلام، فضمن مجموعة «المؤرخين الجدد» يكاد يكون آفي شلايم العضو السفاردي الوحيد). يَنقل ديفيد تل أنه في عام 2008، وفي مؤتمرٍ في جامعة تل أبيب، أكّد عدّة باحثين أنه ليس هناك هوية اسمها «عربي يهودي»، وأنّ الحضور (الأكاديميون) صفّقوا لهذه الفكرة مِن دون اعتراض. وهو يسعى في ورقةٍ أُخرى للبرهنة أنّ جاكلين شوحيط (يهودية تونسية عراقية) كانت في الواقع غربيّة الانتماء.
في أحد شوارع العاصمة الأرجنتينية بوينس آيريس، سألتُ سائق الباص عن اسم الشارع الذي نحن فيه (طبعاً حين تسأل أرجنتينياً سؤالاً من أربع كلمات سيُجيبك بنشرة)، فأجابني بأنه شارع بويردون وصار يَشرح لي عن الشارع وأنه مليء بالمتاجر اليهودية. لكنّ راكبةً اعترضتْ بأنهم مواطنون أرجنتينيون، ولا داعي لتخصيصهم بصفة اليهود، ودار نقاش لم أتدخّل فيه رغبةً في الاستماع. ما لفتني هو أنّ اليهود العرب سرعان ما نفوا عروبتهم بشكلٍ قاطع، وإذا كانت الحجّة أنّ العروبة مرتبطةٌ بالإسلام، فإنّ الإسبانوية ليستْ أقلّ ارتباطاً بالكاثوليكية. إذا كانوا في العالم العربي مواطنين مِن الدرجة الثانية، فقد رأيناهم في إسرائيل مواطنين مِن الدرجة الثالثة، بعد الألمان والغاليسيين.
سنكون بحاجةٍ إلى أبحاث أوسع حول كيف أصبحتْ إسرائيل الهامش الفاشي حيث يَجري تطوير برامج التجسّس وقتْل الإنترنت التي لا تلائم «الديموقراطية الأميركية». تصبح إسرائيل في الآن معاً أوروبا الجيّدة وعكس أميركا. السابع مِن أكتوبر هو نتيجة الدور الأميركي المرسوم لإسرائيل: بورنوغرافيا تقنيّات التجسّس بدلاً مِن السياسة. المشكلة أنه لاحقاً سيُلقى باللوم في لا-عقلانيات إسرائيل على السفارديين. وهنا يُطرَح السؤال: أنتم خنْتم الأوطان التي أنقذتكم يوماً مقابل ماذا؟ الأشكينازي محتلٌّ، أمّا السفاردي فهو خائنٌ، وستجد حركة «حماس» أنّ مِن الأفضل لها أن تميّز بين أسراها، أن يفاوضها أشكيناز على الأسرى الأشكيناز، وسفارديون على أسراها السفارديين، وأن تَطلب مقابل الأسير السفاردي ضعفَي ما تطلبه مقابل الأسير الأشكينازي.
أطرح هنا تأسيس «دراسات سفاردية» (على شكل تمويل أطروحاتٍ في جامعات الولايات المتّحدة) تكون مدخلاً لخلق هوية لا تمثيل أكاديمياً لها وبناءً عليها مشروع سياسي. أن نُنتِج وفرة مِن المعرفة البحثية حول إسرائيل في مجالٍ غير متناولٍ بما فيه الكفاية. هل تكون الدراسات السفاردية إجابةً عن «سؤال واشنطن» بالنسبة إلينا؟ نَعرف أنّ هناك ركوداً في دراسات ما بعد الكولونيالية، فهل تُعيد الدراسات السفاردية تحفيزها؟ نقول «سؤال واشنطن» أو «سؤال أميركا»، لأنه يبدو أنّ سؤال أوروبا قد انتهى؛ قارّة أَفرغتْها واشنطن مِن كوامنها. أنْ نَبحث عن نقصٍ بحثي نَملؤه نحن، نشكِّل قانونه (departmental canon)، هذه هي السياسة بالنسبة إلي، وهذه هي «المقاومة الأَقْسَاميّة».

* باحث