استباقاً: ليس الموضوع عن أحقّية «التنوير»، الديني والفكري بعامّة، أو عن الحاجة إليه عربياً من عدمها. وجب هذا التوضيح لمّا بات الناقد لـ«التنويريين» العرب يعاجَلُ بتهمة الظلامية، في ما يعادل لو أنك رميت ناقداً لنموذج دبي في التنمية، لمجرّد نقده، بتهمة رفض التنمية من أساسها أو معاداة العروبة أو استهواء البؤس والتخلّف. إنما المدار حول ما يدفع ويحرّك المثقفين ويبلور مشاريعهم، وهو دائماً سياقاتٌ سياسية كما نجد في السوابق المماثلة. كما ليس موضوعنا رداءة أعمال بعض «التنويريين الجدد» أو عدم جِدّتها، بل نقد حركتهم من بوابة الجواب على: أي تنويرٍ نريد؟ بأي دافعٍ وفي أيّ سياق؟إنّ المقولات الداعية إلى استنساخ تجربة أوروبا وفقاً لخرافة التطوّر المحمول على جناح الأفكار (أنوار، فثورة/ إصلاح، فحداثة)، والمغيِّبة للدور الحاسم للاستعمار والنهب في «التقدّم»، ما هي إلا دعوات مقنّعة إلى نسخة كربونية رديئة لحذافير النموذج الغربي. بمعنى أن ليس في الأمر من ريادة تجربةٍ تنويرية بقدر الاستنساخ عن، والتبشير بـ، ما هو ناجز. لكن بؤس التنويريين الجدد يبدأ من تجاهل أنه حتى التنوير الأوروبي نفسه كان رفضاً للسلطات الحاكمة ومنظوماتها لا حراسةً لها. هكذا يُمسي التنوير العربي مقلِّداً للغرب ما خلا الغاية: مسعى لحماية السلطات لا استنهاضاً للتثوير والتحرّر.
قبل أسابيع، تداعت وجوه (أبرزهم: يوسف زيدان، فراس السواح، إبراهيم عيسى، إسلام بحيري) لإطلاق مؤسسة «تكوين» (اسمها الكامل: «تكوين الفكر العربي»! وهو اسم أول كتاب لمحمد عابد الجابري من سلسلة نقده للعقل العربي). ولئن كان مقر المؤسسة مصر، إلا أنّ المشروع وتمويله متنزّلان من لدن دولة الإمارات العربية المتحدة وشيخها محمد بن زايد. وكان لافتاً أنّ بين الوجوه من عُرف بتنظيره المعادي لقضية مقاومة الاحتلال الصهيوني لفلسطين. وبعضهم لم يُعرف بذلك، إلا أنه بدأ أخيراً «انعطافةً فكرية» بالخصوص، مواربةً وضبابية، تزامنت «صدفة» مع تمتين علاقته بالإماراتيين.
لقد شهدت مصر مطلع التسعينيات حركة إحيائية لتنويريي عصر النهضة أعيدت في خلالها طباعة نتاجات أعلامها، بذريعة المئوية الأولى للنهضة، إلا أن هدفها كان مواجهة صعود الإسلاميين. وفي السنوات الأخيرة، لا تخفى أسباب هوس النظام الأمني في الإمارات والنظام العسكري في مصر بـ«تجديد الخطاب الديني» وهما يناصبان الإسلام السياسي العداء. لكن موجبات العقد الماضي، وهي تحدّي انتشار الجماعات التكفيرية على رأسها «داعش»، مع صعود «الإخوان المسلمين» تحت ظلال «الربيع العربي»، ما عادت ماثلة، فما هي، إذاً، موجبات اليوم؟
لا يخفي بعض أقطاب المشروع تخوّفهم من تداعيات منعطف السابع من أكتوبر متوقعين عودة «الإرهاب» على أساس التعاطف مع غزة ومقاومتها، ما يستدعي تصدياً ثقافياً استباقياً. وهذا يذكّر بالاستنفار الإعلامي، بداية الحرب، من بعض الإعلاميين السعوديين والذي شبّه 7 أكتوبر بمحطتَي 11 أيلول و2011 (الانتفاضات العربية) - أي الخشية من تجنيد الاستقطاب على الحدث لمعارضين ومتمرّدين.
ثمّة خلفيّتان وراء الفكرة: الأولى، مواجهة تيار المقاومة الصاعد وتحييد إشعاعه عن تطبيع واستبداد وتبعية الأنظمة العربية. والثانية، تدشين الإمارات مشروعها الثقافي المنافس ليكون ثاني المشاريع الخليجية عربياً بعد قطر. وعليه، نحن أمام توظيف لمشروع ثقافي في حماية الأنظمة المستبدة وخيارها في التطبيع والتبعية.
في كتابه «من النهضة إلى الردة: تمزقات الثقافة العربية في عصر العولمة»، ينبّه جورج طرابيشي إلى أن في مقولة طه حسين «علينا أن نصبح أوروبيين في كل شيء» (مستقبل الثقافة في مصر) خلطاً بين الغائية والكيفية لتصبح دعوة إلى محض «تَأَورُب»: «إن التمادي الجزئي والمشروط قد يكون تدريباً على حرية الهوية، ولكن المحاكاة موقف عبودية». يميّز طرابيشي بين «التغريب» و«التحديث» و«التتريث» (التعلّق الجامد بالتراث) مطالباً باعتماد الثاني. إلا أنّ أصحابنا التنويريين الجدد، لا يرون في التنوير المزعوم غير دور الحارس الوفي للأنظمة المأزومة، ولو أتى الأمر على حساب الحرّية السياسية أو خيار المقاومة والتحرر.
* من أسرة «الأخبار»