اكتشفت مؤخراً، أنه كلما انتقدت، من وجهة نظر علمانية، رأي «يسار الثورة» اللبناني في مسألة اجتماعية «تحررية»، فإنهم ينعتونك بـ«الناصري». في البداية، هذه ليست شتيمة، إنما لقب مشرف. ثانياً، يسار الثورة اللبناني يبرع في توزيع هذا اللقب وهو لا يعي أنه يتبنى كل يوم، أحد الأوجه السيئة الوحيدة المتبقية - والمسموح بها - من إرث الناصرية، وهو الانهماك المفرط بنقد الإسلام السياسي. هذه هي العداوة التي أدت إلى جولات من الاستقطاب الاجتماعي العنيف في التاريخ المصري الحديث. الذي لا يريده الليبراليون المشرقيون بشكل عام من إرث الناصرية هو صلب أيديولوجيتها: سياسة خارجية مصرية منخرطة مباشرة بقضايا المنطقة، وبشكل مادي وملموس، اقتصادياً وسياسياً وعسكرياً. أمّا ما يقبله هؤلاء من مصر، فهو يذكرنا بما قاله عبد الرحمن منيف في سيرته الذاتية في مدينة عمان في الأربعينيات، عندما اعترف بإنجازات المملكة المصرية الثقافية والاجتماعية والتربوية في المنطقة، قبل أن عبّر عن عدم ارتياحه من سلبيات التناقض الآتي من الضفة الأخرى من قناة السويس: خليط من الهيمنة الثقافية على المشرق من جهة، والانعزالية السياسية تجاه ذات المشرق من جهة أخرى، والتبعية لبريطانيا من جهة ثالثة، ذلك في حقبة حرجة سبقت النكبة الفلسطينية.
هكذا يمكننا فهم تأسيس مركز «تكوين الفكر العربي» في عام 2024، كعودة جديدة إلى تبني «ثورة» فكرية عربية آتية من القاهرة مختلطة مع انعزالية سياسية متشددة وغير مسبوقة تجاه العالم العربي. من المذهل كيف عدنا إلى تكرار التاريخ مرة أخرى بعد خمسين عاماً على مؤتمر «أزمة الحضارة العربية» المنعقد في 1974 والمنتقد بشدة من قبل مهدي عامل. الحدث الأول عقد بعد عبور الجيش المصري لقناة السويس واختراقه لخط بارليف في السادس من أكتوبر، أمّا الثاني، فقد عقد بعد اختراق المقاومة لمستوطنات الغلاف في السابع من أكتوبر. كلا المؤتمرين قاما على البارانويا وكراهية الشريحة الليبرالية العربية لمجتمعاتهما المحلية. وكلا الحدثين يبتعدان عن العالم المادي للطبقات العاملة وحركات المقاومة والتحرر الوطني، وينهمكان في عالم الثورة الفكرية التي لا تشكل تحدياً حقيقياً بل حليفاً للدولة الرأسمالية الانعزالية.
المؤسف في كل ذلك، هو أن أطروحات المشروع النهضوي الحقيقي العربي كانت موجودة بالفعل قبل عشر سنوات. وذلك عندما أصدرت مجموعة من الباحثين والمثقفين العرب في مؤسسة «الاسكوا» في بيروت تقريراً بشأن التكامل العربي بين الدول العربية - وليس هراء تكوين الفكر العربي - كالسبيل الأهم لتحقيق النهضة. رأى فريق التقرير أن أسباب التراجع العربي تشتمل على «القهر والاستباحة الخارجية والتعثر التنموي… الذي هو وليد عقود من التشرذم» وأن السبيل الوحيد لتحقيق النهضة وامتلاك مقوماتها السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية هو بإعادة بناء التكامل العربي وإنشاء التكتل القوي المنيع، على نحو يحفظ استقلال العرب ويعينهم على النهوض باقتصاداتهم وتحقيق الأمن الإنساني لجميع مواطنيهم.
ليس الأمن الإنساني لشعوبهم هو ما يكترث له رعيل «تكوين الفكر العربي»، بل الأمن من «الإرهاب والتطرف»، وهي أسطوانة مكررة ليس فقط من سنوات الحرب على الإرهاب ما بعد الحادي عشر من أيلول بل من الثمانينيات والتسعينيات. هذه الأيديولوجية تعطي للدولة المصرية غير القادرة على ممارسة قرار الحرب السيادي والمشروع في منطقتها، القدرة على الاستمرار في حرب داخلية أمنية أبدية. بالمحصلة تؤدي هذه النزعة الصدامية، وباسم محاربة الكونية الإسلامية، إلى محاربة الكونيات كافة بضراوة.
هذه الانعزالية لا ترى في الوحدة العربية مشروعاً، وتستبدله بمشروعها الفكري المزيف. في عام 2009 وبعد إنقاذ الحكومة الأميركية البنوك من الانهيار بعد الأزمة المالية العالمية، لاحظ ماركسيون أمريكيون أن أميركا ليست بلداً رأسمالياً بالمعنى الدقيق، بل هي تطبّق «الاشتراكية للأغنياء» فقط. مبادرة تكوين القائمة على «إنقاذ الفكر العربي» المدعومة من الدولة الرأسمالية في مصر والخليج، تشبه ذلك من حيث أنها تعيد إنتاج انعزالية للفقراء ووحدة عربية للأغنياء والنخب الرأسمالية والثقافية والإعلامية (على الهامش، الوحدة العربية في لبنان لا تتعدى سقف أن تقيم نجوى كرم حفلاً في جدة وأن تعبّر كم تحب معجبيها هناك).
إلا أن تدشين مؤسسة «تكوين الفكر العربي» لا يخلو من الإيجابيات. صحيح أن هذه المؤسسة تعلن من جديد حربها «التنويرية» ليس فقط على الإسلام السياسي، بل على الدين بحد ذاته بينما يدافع إسلاميو المقاومة عن أرضهم في غزة وجنوب لبنان ضد دولة الإبادة الصهيونية العسكرية ذات التقانة العالية، ولكنني تمكنت من إيجاد شيء واحد يسعدنا بمشاعر التشفي في خبر التأسيس التعيس: الخاسرون الحقيقيون للحرب الباردة في أميركا والغرب كان التيار الديني المحافظ، والذي اكتشف أن إلحاد المادية الغربية المنتصرة قد قزم في بربريته وكراهيته للإنسان الإلحاد الشيوعي الذي حرّضوا ضده أربعة عقود. هذه مفارقة شبيهة لما حدث في بلادنا، من المضحك أن التيار المحافظ الفائز في الحرب الباردة العربية، قد انتهى به الأمر أن يستبدل علماء أزهر الدولة الناصرية بملاحدة الدولة المصرية الحالية. فليتقلّب الشيخ الشعراوي غيظاً في قبره.
* باحث فلسطيني