تونس | تعمل القوى الناشطة في الفضاء السياسي والمجتمعي في تونس، على استقطاب معارضي الرئيس قيس سعيد إلى «ميثاق جمهوري» يضع البنود الأساسية للعمل السياسي المعارض والبديل. والميثاق الذي وقّعه أكثر من مئة ناشط سياسي ومدني من سياسيين وحقوقيين وشخصيات وطنية وإعلاميين، بالإضافة إلى أربعة أحزاب اشتراكية وليبرالية، وعدد من المنظمات، نُشِر للعموم أخيراً، وتضمن دعوة للشخصيات التي تتفق مع ما ورد فيه إلى التوقيع عليه، تمهيداً لبدء العمل على الميدان. ومنذ اتخاذ الرئيس الإجراءات التي استفرد بموجبها بالسلطة، انقسم معارضوه بين منظومة حكم ما قبل سعيد من جهة، ومعارضيها على امتداد عقد من الزمن، والذين يعارضون منظومة الرئيس أيضاً، من جهة أخرى. ولأن الفئة الأخيرة كانت تحمّل حزب «النهضة» مسؤولية تشويه العمل السياسي، فهي أحجمت عن المشاركة في أي تحرك معارض تقوم به «النهضة» وحلفاؤها.واليوم، تبدو المبادرة الأحدث محاولة لجمع كل الراغبين في خلق بديل لمنظومة الحكم الحالية، ولكن هذا لا يعني تلقائية انضمام «النهضة» وحلفائها إليها؛ إذ إن بنود الميثاق تنصّ على وجوب العودة إلى دستور عام 2014، مع تعديل عدد من أحكامه، وخصوصاً تلك التي أسست للديموقراطية الصورية والتي انقلب عليها سعيد. والجدير ذكره، هنا، أن قائمة التوقيعات شملت أسماء لشخصيات متقاربة فكرياً تنتمي في أغلبها إلى العائلة الوسطية الديموقراطية وبعض الحركات اليسارية أيضاً وذات الخلفية النقابية، وغابت عنها، إلى حد الآن، الشخصيات ذات الخلفية الإسلامية.
كذلك، وضع الميثاق جملة من المبادئ، أساسها احترام سيادة البلاد، وضمان الحريات العامة والفردية، والمساواة بين المرأة والرجل، وتحييد دور العبادة عن الدعاية السياسية، وضمان حيادية المؤسستين الأمنية والعسكرية، وحماية حرية التعبير والرأي والصحافة والنشر. وفيما يبدو لافتاً أن أغلب تلك المبادئ كانت محل صراع أيضاً مع منظومة «النهضة» كما هي مع منظومة الرئيس الحالي، بما يضعّف إمكانية انضمام الحزب إلى الميثاق، فإن هذا الأخير يتجاوز كونه محاولة تجميعية للأطراف الراغبة في تصعيد تحركاتها ضد سعيد قبيل الانتخابات الرئاسية المقبلة، والرافضة، في الوقت نفسه، للاندراج مع «النهضة» في الخانة نفسها، إذ يظهر أقرب إلى وثيقة تقدم تصورات للمرحلة المقبلة، وتستهدف ما يعتقد أصحابها أنه «ترشيد» خيارات التونسيين السياسية قبيل الانتخابات وبعدها.
انقسمت التأويلات حيال تلك المبادرة بين من يراها مجرد غطاء لجبهة سياسية، ومن يتهمها بالعبثية


ويناقض مضمون الميثاق أسس حكم الرئيس الحالي، كونه لا يعترف بالدستور الجديد الذي سنّه سعيد وأجرى عليه استفتاءً شهد مشاركة ضعيفة جداً. كما يشدد على فصل السلطات الثلاث بعضها عن بعض، بعد أن استفرد بها سعيد بتنصيب حكومة صورية تتلقى أوامرها مباشرة منه وتنفذها. أيضاً، ينصّ الميثاق على العودة إلى النظام الانتخابي المعتمد في انتخابات عام 2019، ولكن بتعديلات كبيرة تسمح بمراقبة تسرب المال السياسي والسيطرة على شراء الأصوات وتوجيه الناخبين. كذلك، يمهد للعمل على إطاحة المراسيم والقوانين التي سُنت خلال هذه الفترة والتي حدت من الحريات، وأولها المرسوم 54 المتعلق بجرائم الرأي، والذي يقبع بموجبه عشرات الصحافيين في السجن على قيد التحقيق، فيما يلاحق آخرون أمنياً وقضائياً.
وانقسمت التأويلات حيال تلك المبادرة بين من يراها مجرد غطاء لجبهة سياسية تصطف وراء مرشح ستختاره لاحقاً، ومن يتهمها بالعبثية ومحاولة تغيير موازين القوى قبيل انتخابات محسومة سلفاً، ما يجعل حتى هامش الفعل السياسي أضيق إذا لم يكن معدوماً تماماً. ويرى مراقبون أن الرئيس الذي لم يستجب حتى لمسانديه الذين دعوه إلى تأسيس جبهة انتخابية وإدخال تعديلات على نظام الحكم بما يضمن الديمقراطية والحريات، على غرار «حركة الشعب» الداعمة لمسار 25 تموز، لن يستجيب أيضاً للموقّعين على الميثاق، هذا إذا لم يتهمهم سلفاً بالعمالة، كما فعل مع جميع خصومه.
من جهته، أعلن أمين عام «الحزب الاشتراكي»، فوزي الشرفي، في تصريحات إعلامية، أن أطراف الميثاق لن تدخل الانتخابات طالما لم يقدم الرئيس ضمانات لنزاهتها وشفافيتها، وأهمها تحديد موعدها والإعلان عن القانون الذي سينظمها، وإطلاق سراح المساجين السياسيين لضمان حق هؤلاء في الترشح، وابتعاد الرئيس عن «هيئة الانتخابات» ورفع يده عنها بما يسمح لها بالاستقلالية والقدرة على تنظيم انتخابات من دون ضغط، إضافة إلى إلغاء المرسوم 54.