أكثر من نصف ساعة بقليل قضيناها على الطريق الممتدّ من مخيم «تندوف» إلى «المتحف الوطني للمقاومة» (البوليساريو). لدى وصولنا إلى هذا الأخير، بدأت تتشكّل أمامنا سريعاً معالم تاريخ الصحراء الغربية منذ ما قبل الاستعمار الإسباني إلى اليوم. يقول المرشد المرافق لنا إن القبائل قاومت الاستعمار البرتغالي، قبل أن يأتيها الإسبان الذين أطلق الشرارة الأولى لمقاومتهم، محمد سيد إبراهيم بصيري، بعد قدومه من دمشق إلى الصحراء لزيارة عائلته، في أواخر الستينيات. ومن بَعده، برز اسم الولي مصطفى السيّد، الذي أطلق عام 1973 «الجبهة الشعبية لتحرير الساقية الحمراء ووادي الذهب» أو حركة «البوليساريو»، لتتمكّن الأخيرة من طرد الغزاة الإسبان. لكن هؤلاء الأخيرين عمدوا، قبيل انسحابهم، إلى تقسيم الصحراء ما بين جزء شمال أُعطي للمغرب، وآخر جنوبي لموريتانيا، ليعمد الأول، أواخر عام 1975، إلى دخول الصحراء بقواته، وتهجير سكانها إلى الجزائر حيث شيّد الصحراويون مخيماتهم، وأعلنوا عام 1976 تأسيس «الجمهورية العربية الصحراوية الديموقراطية» التي اعترفت موريتانيا بها لاحقاً ووقّعت معاهدة سلام معها، فيما استمرّ الصراع مع المغرب قائماً.كانت زيارتنا إلى المتحف الذي شيّد في أيار 2003، في مناسبة الذكرى الثلاثين لاندلاع «الكفاح المسلّح»، جزءاً من فعاليات يرى القيّمون على هذه القضية، الظرف مناسباً لإطلاقها، ربطاً بالتحولات الدولية التي فرضتها معركة «طوفان الأقصى». ومن هنا، عُقدت الندوة الدولية الأولى للإعلاميين المهتمين بهذه القضية في مخيمات ولاية تندوف الجزائرية، بدعوة من «اتحاد الصحافيين والكتاب والأدباء الصحراويين»، فيما شكّلت ازدواجية المعايير الغربية، والتي يرى «الصحراويون» أن مسألتهم عومِلت بها، تماماً كما يجري التعامل بها مع حرب غزة، عنواناً رئيساً لها. الندوة التي استمرّت أعمالها لثلاثة أيام، اختُتِمَت بالإعلان عن نداء «بئر لحلو» للخطاب الإعلامي المتّزن، والهادف إلى «مجابهة الروايات المغلوطة، بِما يُنصِف الشعوب وحقّها في تقرير مصائرها بكل حرية»، فضلاً عن تأسيس «فيدرالية الصحافيين المتضامنين مع الشعب الصحراوي»، والتي تستهدف توحيد جهود «المرافعة عن القضية»، و«اختراق حواجز الصمت» المفروض حولها، وتفنيد ما يقول أصحابها إنها مغالطات شائعة حولها، من مثل الافتراض أن «الصحراويين مختطفون في مخيمات تندوف الجزائرية، أو أن الصراع جزائري – مغربي، أو أن الصحراء امتداد للتراب المغربي وأهلها يريدون الانفصال».
عُقدت الندوة الدولية الأولى للإعلاميين المهتمين بهذه القضية في مخيمات ولاية تندوف الجزائرية


ويقول الأمين العام لـ«اتحاد الصحافيين والكتاب الصحراويين»، نفعي أحمد، إن «الخطاب الذي ننشده لا يصف المقاومات بالإرهاب، ولا الصحراويين بالمخربين، إنما أصحاب أرض يريدون تقرير مصيرهم، واعتراف العالم بدولتهم بعد اعتراف 80 دولة بها»، ويلفت إلى «(أننا) نستفيد من انتقال الصحافي من السلطة الرابعة إلى ما قبل السلطة الأولى، ليصنع الخبر، خصوصاً أننا كابدنا الحقبات الاستعمارية، وفقدنا الثقة بتسوية القضايا عن طريق القرارات الدولية». وفي هذا المجال، تناولت الندوة كيفية الاستفادة من الإعلام البديل الذي أحسن الفلسطينيون في المعركة الحالية استغلاله، من أجل إعادة إنتاج روايتهم ونشرها عبر العالم، مقدمين نماذج متميزة من «صحافة المواطن».
وفي الصورة الأعم، يرى وزير خارجية «جمهورية الصحراء الغربية»، محمد سيداتي، أن ثمة حاجة إلى «نسج علاقاتٍ متينة ما بين الجبهة الشعبية لتحرير الساقية الحمراء ووادي الذهب (البوليساريو) وبين فصائل المقاومة في العالم العربي وتحديداً في لبنان»، مضيفاً، في حديثه إلى «الأخبار»، أنه «بالدرجة نفسها التي يُقاوم بها الفلسطينيون واللبنانيون، يقاوم الصحراويون، ويبقى التعويل على المقاومات وحركات التحرّر الوطني، رغم احترامنا للدول وقراراتها». وإذ «ننتظر من لبنان، الجرأة في رسم سياسة خارجية حيال قضيتنا»، كما يقول، فهو يشدد على الحاجة إلى «التنسيق مع الجهات المعنية ليتعرّف الشباب اللبناني أكثر إلى القضية». أما عربياً، فـ«تكمن المشكلة في الموقف العربي المنحاز إلى المغرب ضدنا» بحسب سيداتي، الذي يذكّر بأنه «عند الشروع في حركة نضال وطني ضد الاستعمار الإسباني، انتظر الصحراويون وقوف العرب إلى جانبهم، ولاحقاً اكتفوا بموقف عربي غير متآمر عليهم، ولكن خذلوا رغم العلاقة العضوية التي تربط المغرب بإسرائيل». والجدير ذكره، هنا، أن «الجمهورية الصحراوية»، التي أصبحت عضواً مؤسساً في «الاتحاد الأفريقي»، تربطها علاقات مع دول في أميركا اللاتينية من مثل كوبا وفنزويلا وكولومبيا، فيما توجد تمثيليات لجبهة «البوليساريو» في دول أخرى من بينها إسبانيا. أما الاتجاه نحو فرنسا، فكان لا بدّ منه، بصفتها «جزءاً من القضية باعتدائها المباشر على الصحراء الغربية إبان حقبة الاستعمار، ولاحقاً بدعم المغرب في السيطرة على الأرض» كما يقول «الصحراويون».



شهادات من الصحراء
يخضع 80% من أراضي الصحراء الغربية، التي تعدّ منطقة غنية بالثروات والموارد الطبيعية، للسيطرة المغربية. وتفيد شهادات صحافيين وناشطين قادمين من ذلك الجزء، بأن السكان يتعرضون لـ«انتهاكات إنسانية وجرائم على نطاق واسع، وذات طابع ممنهج»، متحدثين أيضاً عن «محاكمة أصحاب الرأي المُناهض للنظام المغربي، وعن رفاق يكملون في شهر تشرين الثاني المقبل عامهم الـ14 في الاعتقال». كما يتحدثون عن أحوال السجناء «المتدهورة»، بفعل «أساليب التعذيب المتّبعة»، والتي تعكس، بحسبهم، «مدى التدهور الخطير لحقوق الإنسان»، مشيرين إلى أنه جرى، أخيراً، «تدمير وحرق مساكن للصحراويين على طول السواحل الشاطئية في نواحي منطقة العيون، وفرض الإخلاء القسري للبيوت والأراضي هناك». يُذكر أن بعثة السلام الوحيدة في العالم، والتي لم تباشر مهماتها، هي تلك الموجودة في الجزء الصحراوي المُسيطر عليه من المغرب.


نساء... من دون «نسوية»
مثّل قضاء أربع ليالٍ في ضيافة «الصحراويين»، سواء في خيمهم أو بيوتهم المبنية غالباً من الطين، تجربةً غنية أتاحت لنا استكشاف الكثير عن هذا المجتمع. هنا، دور الضحية لا يغري أحداً، بما في ذلك المرأة التي يبدو حضورها طاغياً كيفما أدرت وجهك. فهي تضطلع بدور متقدّم حتى على صعيد الإدارة العامة، حيث تُقسّم المخيمات إلى خمس ولايات، على رأس كلّ منها والٍ (أي محافظ)، وثلاث من هؤلاء نساء. كما تُشارك المرأة في الحياة التشريعية، عبر عضواتٍ منتخباتٍ، ما يعني أن وجودها غير محصور في «كوتا» أو وراثة المقعد من أب أو زوج أو أخ.
وكنموذج إضافي من تلك الأدوار السياسية والاجتماعية الفاعلة، حرصت الجهة المنظّمة للندوة الأخيرة على عقدها في مقرّ «الاتحاد الوطني للمرأة الصحراوية»، المؤسس منذ العام 1976، أي قبل أن «تغزو» المنظمات غير الحكومية المعنية بشؤون النساء الدول العربية، وتبدأ بتصدير أفكارها الفوقية المعلّبة، مولّدة صراعات ثقافية لم يختبرها «الصحراويون»، الذين يغيب عن مجتمعهم، كذلك، العنف الأسري، بمختلف أنواعه.
وتؤكّد الأمينة العامة للاتحاد، الشابة سيني، لـ«الأخبار»، أنّه «لم يُسجل تقدّم امرأة واحدة في قضية عنف أسري في تاريخ المخيمات»، مشيرةً إلى حالةٍ وحيدة تعرّض فيها زوج لزوجته، فنبذه على إثر ذلك أصدقاؤه ومحيطه. وحتى على صعيد الطلاق والحضانة، «تغيب الوصمة الاجتماعية المرافقة للمرأة المطلّقة، لا بل تقيم السيدات الصحراويات حفلات الطلاق كتقليدٍ اجتماعي». أما الأطفال، فـ«لا تحتاج والدتهم إلى إذن سفرٍ من زوجها لاصطحابهم. وكذلك حضانتهم دوماً من حصّة الأم، التي تبقى في منزل الزوجية برفقتهم، بينما من يغادر هو الرجل عند وقوع الطلاق». وعلى رغم كل ما تقدم، تغيب هيئة الأمم المتحدة لشؤون المرأة والمنظمات النسوية العالمية عن هذه المنطقة، ولا تنسج أي علاقةٍ مع منظماتها، وعلى رأسها «الاتحاد» الذي يُشارك في عضوية أكثر من إطار حقوقي نسوي.