تونس | نجت تونس من «ليلة السكاكين الطويلة»، مخالفةً التوقّعات بحمّام دم أو تمكُّن المؤسسة العسكرية من السلطة. وفي وقت جاء فيه «إعلان حسن النوايا» الذي بادر إليه الرئيس التونسي، قيس سعيّد، إثر لقاءات مكثّفة مع المنظمات الوطنية، ليسكّن ريبة الكثيرين، اتجهت الأنظار إلى موقف خصومه وحلفائه المترقّبين خطواته المقبلة. ولا يقف خصوم سعيّد على ضفة المسلّم بالأمر المقضيّ به، بل إن وراء تغيُّر المواقف حراكاً داخلياً كبيراً لقراءة السيناريوات الممكنة وهوامش الفعل المتاحة. تعهّد الرئيس التونسي باحترام الحقوق والحريات، وشدّد على أن وصفه بـ«الانقلابي» لا يستقيم، فهو أستاذ القانون الدستوري الذي لا يخرج عن شرعية النص الدستوري، والذي لا يزال يعمل وفقه واستناداً إليه، بحسب ما دافع به عن نفسه. ولم يتوانَ سعيّد عن توضيح أسباب قراراته وفق ما روته نائلة الزغلامي، رئيسة «جمعية النساء الديموقراطيات»، في حديثها إلى «الأخبار»، كاشفة، إثر لقائها به، أن سعيّد فسّر أسباب تطبيقه للفصل 80 وإعلان حالة التدابير الاستثنائية، بـ«استفحال الوضع الوبائي والعبث بحياة التونسيين من قِبَل قيادةٍ اهتمّت بالمناكفات السياسية على حساب صحة التونسيين». وأضاف الرئيس، وفق الزغلامي، أنه ماضٍ في نهج تشاركي في رسم ملامح المرحلة المقبلة، في إطار رده على مطالبات «منظّمة الشغيلة» (الاتحاد العام التونسي للشغل) بخريطة طريق واضحة المعالم لفترة التدابير الاستثنائية. وكانت المنظّمات قد دعت الرئاسة، خلال اللقاء، إلى «توفير الضمانات لعدم الانحراف بالسلطة واحترام الحقوق والحريات وتوفير ضمانات المحاكمة العادلة وعدم التشفّي في الشخصيات المعنية بتحريك الدعاوى القضائية ضدّها».حُسمت الجولة الأولى من المعركة مبدئياً لصالح سعيّد، بعدما تولّى رئيس الحكومة، هشام المشيشي، إعلان تخلّيه عن مسؤولياته وتسليم العهدة لِمَن سيعيّنه الرئيس. ويُعدّ هذا المعطى ذا أهميّة، خاصّة أنه سبقته تصريحات لقيادات من «النهضة» عن أن المشيشي لا يزال - في اعتبارها - رئيساً للحكومة، يباشر مهامه بصفة طبيعية، في تجاهل تام لقرارات سعيّد. ولكن رئيس الحكومة المُعفَى نقض اتفاقه مع «النهضة»، منسحباً من المشهد، بل ومحمِّلا إيّاها وبقية حزامه السياسي مسؤولية فشل حكومته وتصاعد الاحتقان في البلاد، وفق بيان أصدره مساء أوّل من أمس. ولم تَعُد «النهضة» إثر ذلك معزّزة بشرعيتين: الأولى لرئيس البرلمان، زعيمها راشد الغنوشي، والثانية لرئيس الحكومة، حليفها على امتداد سنة في الخلاف مع سعيّد. وبانسحاب المشيشي، غيّرت «النهضة» سريعاً موقفها، فدعت أنصارها إلى فضّ اعتصامهم أمام البرلمان الذي انطلق سويعات بعد قرارات سعيّد. وانعقد مكتبها التنفيذي مُصدِراً بياناً حافظ فيه على الموقف المبدئي الرافض للقرارات والواصف لها بـ«الانقلاب»، مع دعوة إلى الحوار من أجل الخروج من الأزمة وتفهُّم احتجاجات الشارع وغضبه منها، وخفتت بذلك نبرتها المهدِّدة للجميع، رئيساً وأحزاباً معارِضة ومحتجين غداة احتجاجات الـ25 من تموز. ويعتبر القيادي وعضو مكتبها التنفيذي، محمد القوماني، في حديث إلى «الأخبار»، أن بيان المكتب فيه تجديد لتأكيد رفض الإجراءات الرئاسية المستنِدة إلى الفصل 80 واعتبارها إجراءات انقلابية على الدستور والمسار الديموقراطي. وأردف: «حريصون على الاستقرار السياسي، ونخشى أن نصبّ الزيت على النار في وضع صعب، لذلك ذهبنا نحو فتح الباب للمعالجة السياسية بعيداً عن المغالبة ومخاطر الاحتكام إلى الشارع». وعمّا إذا كانت الحركة خشيت أن تبقى وحيدة في مواجهة قرارات الرئيس، بما يعني مواجهة مفتوحة بينها وبين سعيّد، ردّ محدِّث «الأخبار» بأن التصريحات الأولى مبدئية، أما تقديرات الموقف فتأتي لاحقاً، «بقيت مراعية لمواقف المنظمات والأحزاب والمؤسسات الصلبة، خاصة الأمنية والعسكرية»، وحال تأكّد «النهضة» من انصياع المؤسّستَين لقرارات الرئيس «أدركت ما يراد جرّها إليه». ووصف قرار رئيس الحكومة بالتخلّي عن مهامه بـ«الخطأ»، ولا سيما أن الدستور لا يسمح للرئيس بحلّ الحكومة، فيما قرار إعفائه يعتبر «خارج الدستور».
حُسمت المعركة مبدئياً لصالح سعيّد، بعدما أعلن رئيس الحكومة، هشام المشيشي، تخلّيه عن مسؤولياته


وتقوم استراتيجية «النهضة»، خلال هذه المرحلة، على الإبقاء على التنسيق مع الأحزاب السياسية وإشعار التونسيين بأن المعركة ليست ضدّها، بل تستهدف الديموقراطية. وعلى رغم هذه التحفظات، جزم القوماني بأن «رئيس الجمهورية ليس عدواً، بل إن موقعه في الدولة سيجعله يستمع بصيغة أو بأخرى إلى الأحزاب السياسية والمنظمات ونصيحة الأشقاء في الجوار وفي الخارج»، موضحاً أن «النهضة»، وإن لم يتمّ تشريكها في مسار تشكيل الحكومة وتكليف من يقودها، فإنها ستبقى حزباً جماهيرياً له وزنه في الحكم أو في المعارضة. أما حزب «قلب تونس»، وهو الحزب الثاني في الحزام الحكومي بعد «النهضة»، فقد لانت مواقفه أيضاً بعد استقالة المشيشي وهدوء موجة رفض القرارات، إذ اعتبر نفسه جزءاً من المنبّهين، وتفهّم الرسالة الشعبية المتمثّلة في الاحتفاء بقرار تجميد البرلمان وإعفاء الحكومة، على أن يتولّى مراجعة مواقفه طيلة السنتين الماضيتين. ودعا، في السياق نفسه، رئيس الجمهورية إلى حوار حقيقي لإيجاد مخرج للمشكلة السياسية. وبالنسبة إلى «التيار الديموقراطي»، الحزب الذي دار كثيراً في فلك الرئيس وقدَّم له دعماً سياسياً في محطّات مختلفة، فقد كان رأي مؤسساته مخالفاً لتأويل سعيّد، إذ رفض ما أعلنه الأخير من قرارات وإجراءات «خارج الدستور». ولا يزال المخاض داخل هذا الحزب مستمراً بشكل يجعل الموقف الأوّلي قابلاً للتراجع عنه، خاصّة وسط تباين في تصريحات قياداته بلغ حد مناقضة الموقف الرسمي تماماً. وأوضح القيادي في التيار، زياد غناي، لـ«الأخبار»، أن المرحلة لم تَعد تقتضي الوقوف على ما فات، والمهمّ هو الموقف ممّا سيحدث وما يمكن أن يكون التيار مؤثراً فيه. وأضاف أن «الأجدى الانكباب على وضع خريطة طريق للمسار خلال هذا الشهر من التدابير الاستثنائية، يكون أبرز عناوينها مكافحة الفساد»، وهو شعار طالما تبنّاه الحزب. وتتواتر مواقف الأحزاب السياسية الداعية إلى وضع خريطة طريق للفترة المقبلة، ما يعني مقبولية «على مضض» بقرارات سعيّد، وأن أوان معارضتها قد فات لعدة اعتبارات، من بينها: حجم الدعم الشعبي الذي يحظى به، وإرجاء المنظمات الوطنية والحقوقية تقييم صحة الإجراءات دستورياً إلى وقت لاحق، موليةً اهتمامها بمدى التزامه بوعوده المتعلّقة بمكافحة الفساد واحترام الحقوق والحريات وعدم احتكار السلطة من أجل تأبيد الوضعية الاستثنائية.