قد لا يختلف شخصان على أنّ جزءاً كبيراً من الحملة الأخيرة على اللاجئين في لبنان، صبّت الزيت على نارها القنوات اللبنانية، بغضّ النظر عن الموقف من هذا اللجوء. والحملة هذه، للمفارقة، أتت بنتائج عكسية على عودة اللاجئين، إذ إنّ القنوات بهذه الطريقة ساهمت في حصر المطالبة بعودتهم اللائقة بشعار «العنصرية»، ما يعني إهمال أيّ نقاش يتعلّق بالعودة على أنّه عنصري، ولو لم يكن كذلك فعلاً.ولتكتمل صورة قلّة المسؤولية التي تتمتّع بها القنوات المذكورة، سعّرت الحملة على سوريا في وقت ينفتح عليها الحلفاء والخصوم، وفي وقت لبنان بأمسّ الحاجة إليها وإلى المساهمة في إعادة إعمارها. أي أنّ القنوات هذه لم تكتفِ بما تسبّبت به من أضرار على لبنان بحملاتها إبّان الحرب على سوريا، بل تريد الإجهاز على ما تبقّى من خطوط مفتوحة قد تشكّل خشبة خلاص لكلا البلدَين. لكنّ الحملة على سوريا كفيلة بأن تنسف ادّعاء حرص هذه القنوات على عودة اللاجئين، فالجميع يدرك أنّ المدخل لعودتهم لا بدّ من أن يبدأ بالحوار مع سوريا. هكذا إذاً، يتّضح أنّ هناك أهدافاً مشبوهة لـ«تجّار اللجوء»، وأنّهم يعلون المصالح الشخصية على المصلحة اللبنانية. الوصف هذا لا يستثني قلّة من المزايدين من منصّات تواصل اجتماعي «مستقلّة» (سوروسية) تدّعي مناصرة اللاجئين فيما فعليّاً لا تريد منهم سوى ما يريده مموّلوها، وهو استخدامهم أوراقاً في حروبهم السياسية.
القبّعة المرفوعة كما درجت العادة لتلفزيون mtv. هذا التلفزيون اعتاد البحث عن أبسط ما يتعلّق بحياة الناس وسلامة الاقتصاد والمجتمع، لكن ليس للدفاع عنها. فيختار لا الاصطفاف ضدّها فحسب، بل محاربتها بكلّ ما أوتي من قوّة، كأنّ الناس والعمّال والطبقات الفقيرة والمهمّشين والمستضعفين واللاجئين هم أعداؤه الذين يشكّلون خطراً على وجوده. هكذا تسخّر mtv هواءها، من نشرات وحوارات وصولاً إلى «خطأ شائع» و«صار الوقت»، لتزوير التاريخ وتحريف الحقائق والدفاع عن مصارف وميليشيات سابقة وقوى عظمى وأنظمة وأدوات هيمنة مالية ومحتكرين وغيرهم، مقابل الهجوم على محاربي الفساد والمدافعين عن أرضهم، وعلى بلدان العالم الثالث والشعوب المهمّشة، وعلى مبادئ الاكتفاء الذاتي والتوزيع العادل للموارد والعدالة الاجتماعية وغيرها. كما تستضيف القناة في نشراتها بشكل شبه يومي حيتان مال ومدمّرين اقتصاديّين مسؤولين عمّا آلت إليه الأوضاع في لبنان.
منذ الإعلان عن عودة العلاقات السعودية الإيرانية، أرادت قناة المرّ إظهار أنّها تغرّد خارج السرب، وأنّ الاتّفاق بين البلدَين لن يؤثّر على موقفها من الجمهورية الإسلامية، بل سيؤثّر على موقفها من المملكة «عتباً»، على طريقة المزايدة وإثبات «خلاصها» للمبادئ التي (كانت) تجمعها بالمملكة. لم يتغيّر الأمر عند الانفتاح العربي على سوريا. أبت القناة إلّا أن تُظهر «عدم انجرارها» مع الموجة، رغم أنّ الانفتاح يفيد لبنان قبل أيّ بلد آخر. الفكرة هنا أنّه كان بإمكانها، بكلّ بساطة، القيام بدورها الإعلامي من حيث نقل الأحداث، من دون تعمّد صبغ الأخبار بلغة «اشمئزازية». وفوق ذلك كلّه، استمرّت لأيّام متواصلة في التحريض على اللاجئين، خصوصاً في نشرات أخبارها، قبل أن تنفجر «غضباً» على لسان مارسيل غانم الذي حمّلهم مسؤولية كلّ ما يحصل في البلاد، مبرّئاً على طريقه الطبقة التي ينتمي إليها. ولا حاجة لتكرار ما قالته القناة، فالجميع سمع الخطاب الذي اتُّبع في الفترة الأخيرة، ولإعادة نشره أضرار أكثر من فوائدها.
على ضفّة LBCI، شاركت القناة في الحملة على اللاجئين، لكن مع تغليفها بلغة «موزونة» وشرح لنتائج «النزوح» وعبئه. لكنّ ذلك لا يعني أنّها لم تعطِ الموضوع الحيّز الأهمّ في نشراتها، واستمرّت في «شروحاتها» على مدى أيّام عدّة متواصلة. الأمر بدا طبيعيّاً، قبل أن تأتي أخبار الانفتاح العربي على سوريا، فحذت LBCI حذو mtv، ولو أنّها اتّبعت تعابير «ناعمة» واستخدمت مواضيع مختلفة كي لا يُفهم منها نيّة الهجوم المباشر. صحيح أنّ LBCI لا تخفي تلقّيها أموالاً من السفارة الأميركية مقابل إعلانات للأخيرة على هوائها، وهو ما يحصل منذ سنوات معدودة، إلّا أنّ القناة طوال هذه الفترة، لا سيّما بعد تحرّكات 2019، حرصت على إبداء عدم تأثير ذلك على «حياديّتها»، ما لاقى استحساناً من الأطراف السياسية والمدنية على اختلافاتها، خصوصاً من حيث تعاطيها مع التظاهرات. أمر ما تغيّر بعد ذلك، وباتت القناة منذ سنة أو أقلّ تصطفّ مع محور سياسيّ بطريقة واضحة وصلت حدّ الترويج (لا نقل الأخبار فحسب) لإعلانات عن مطلوبين لبنانيّين تضع الولايات المتّحدة كفالات مالية مقابل معلومات عنهم، والدعوة إلى الفدرالية والتسويق لها، والهجوم الشرس على القاضية غادة عون (كما فعلت mtv)، وتلميع صورة حزب الكتائب بين الحين والآخر، و«التذكير» بمشروع «كاساندرا» الأميركي الذي يدّعي ارتباط «حزب الله» بكارتيلات مخدّرات في أميركا الجنوبية، واتّهام سوريا و«حزب الله» بالمسؤولية وراء تصدير الكبتاغون من سوريا إلى دول خليجية.
النقطة الأخيرة، أي تصدير الكبتاغون من سوريا، كانت محطّ اهتمام القناة في نشرة أخبار مساء الخميس، فربطت عودة العلاقات السورية السعودية بتصدير تلك الحبوب المخدّرة، واعتمدت نبرة معيّنة اشتراطية على طريقة «على سوريا القيام بهذا وذلك وإلّا...»، من دون أن تنسى التلميح إلى وقوف «النظام» وراء الكارتيلات، كما غمزت من قناة «حزب الله» من دون أن تسمّيه.
لم تضع «الجديد» نفسها على الخارطة هذه المرّة، إذ لم تبدِ لغة معيّنة تجاه المتغيّرات الإقليمية، وأبقت على الصورة «العروبية» التي تفضّل الظهور بها، ولو أنّها لا تلتزم بها بحذافيرها. كما حصرت حملاتها بأطراف داخليّين تعتبرهم خصومًا لها، بمَن فيهم القاضية عون. على أيّ حال، من الواضح إلى أين تتّجه الأمور إقليميًّا، والأجدى على القنوات اللبنانية المهيمنة أن تتقبّل الواقع بدل التعنّت وكأنّها تحالف سياسي لم يُسمع لرأيه، وأن تتوقّف عن الدفع ضدّ ما تبتغيه المصلحة اللبنانية، لا «العليا» فحسب، بل «الدنيا» أيضاً التي غالباً ما يتمّ تناسيها.